قصة قصيرة
عبد الجبار ثابت الشهابي نظر بجاش إلى الأرض الشاسعة الخضراء المترامية على امتداد البصر ، وإلى الآفاق البعيدة ؛ من على السفح الذي تجثم عليه قريته ، ثم التفت ـ وهو يطلق تأوهات من الأعماق ـ بنظره إلى تلك الحقول الخصبة من أراضي أسرته ، وخصوصاً تلك التي سيطرت عليها عمته سعيدة مربش في آخر (شريعة ) انتهت قبل أسبوع كانت قد خاضتها عمته هذه مع والده وأعمامه الثلاثة على مدى خمس سنوات ؛ بعد أن كان أبوه وأعمامه قد شددوا قبضتهم على هذه الأرض ؛ خصوصاً بعد أن تمكنوا من إغراء أحد القضاة ، وشراء مودته والحصول منه على شهادة ملكية بتلك الأرض ، بدعوى البيع والشراء .لم يتمالك بجاش نفسه . . ارتفع صوته ، وراح في نحيب شديد ؛ مع أنه مقتنع بعدالة الحكم الصادر لمصلحة عمته ، وأن أباه وأعمامه كانوا في الحقيقة طلاب باطل ، ولكن ما العمل ، إنه الحب الأعمى للأرض، والوفاء للتراب . . فبجاش لم يعرف نفسه إلا متمرغاً بتراب هذه الأرض . . زارعاً . . وحاصداً . . وراعياً . ـ يارب ماذا أعمل ؟! قال وهو يحاول أن يجر أنفاسه ، ويلتفت إلى تلك اليد التي وضعت للتو على كتفه كمن يلقي القبض على فار من وجه العدالة ، أو جانٍ لما يفرغ من فعله الإجرامي . ـ أهلاً يا عم مدهش ! !ـ يا ابني مو معك تتنفخ ؟ ! المسألة هي مرة . . زاده وإلا نقصه. ـ أيش قصدك يا عم ؟ !ـ أنتم الشباب بيدكم الحل والعقد . . إن تشتوا تقعوا رجال .. فهي في الأخير مرة . . والأرض أرضكم . . من أين قد كان للحريم حق ؟ ! أعقلوا يا ناس ! ! ـ لكن . . يعني . . الشرع معها .ـ قل إنكم تخافون من بطشها وسطوتها ! !كان بجاش يقرأ المقاصد في وجه عمه مدهش ، ويضع خطوطا ًوعلامات استفهام وتعجب تحت الكلمات والأحرف ، ويستحضر الصور من زحمة الذاكرة الأليمة للسنوات التي مضت ، وما شهدت من صراعات بين الأخوة ، وكيف أن عمه مدهش ـ هذا ـ كاد في أكثر من مرة أن يرقص على أشلاء مجزرة أوشكت على الوقوع بين أخوته ، وكان هو من حبك وأشعل نيرانها ، في صورة ظهر فيها في كل تلك الأحداث أبعد ما يكون عن أي صلة ، وعن مواقف الأخت الصارمة التي لا تعترف سوى بلغة بطشها وبندقيتها التي خصها بها أبوها منذ شبيبتها ،فقد كان أبوها ـ رحمه الله ـ يعدها ـ كما تقول هي ـ بكل رجال القبيلة . .ـ أنت شيطان ! !قال بجاش بصوت غير مسموع ؛ قاصداً عمه. . لكنه سرعان ما سأل نفسه : وماذا أريد أنا الآن ؟ أليست هذه الأرض من حق عمتي بحكم الشرع ؟ ـ اسمع يا وليد ! ! كلنا يجب أن نجتمع . قال عمه مدهش وهو ينظر بعمق إلى وجه ابن أخيه بجاش ، وكأنه يقرأ ما يجيش به قلبه من الأفكار، والخواطر . ـ على أيش نجتمع يا عم ؟ !ـ على ما نريده جميعاً . .أنت وأبوك وكلنا نشتي الأرض . . وما نشتيش عمتك تتملكها ، ويتنعم بها وبثمرها غيرنا . . مش كذا وإلا لا ؟ ! ـ بس يا . .ـ لا بس ولا بسباس . . بطل لوك . . أنت معنا . . نحنا با نكون معك . . با تلوك ؟ أو تشتي تتحايل علينا ؟ أقول لك : العب بعيد ! ! أنا ما با زوجك البنت ولا أعرفك ولا أصرفك . . وفلوسك با ردها لك على الجزمة ! ! أنا أشتي مواقف رجولية شجاعة ! ! .طأطأ بجاش رأسه ، حدق بعينيه إلى الأرض . . تذكر ابنة عمه التي يشعر أنها قد سلبت منه العقل والإرادة ، وغدا أسير عشقها الذي امتلك حواسه وإحساسه . .ـ ولكن ما دخل زواجتي من بنتك يا عم ؟! .ـ هكذا يجب أن تفهم . . ما فيش لعب ! ! بكى بجاش بكاءاً مريراً ،تلفت يمنة ويسرة . . توقف . . طأطأ رأسه . . تسمرت عينه في التراب . . وفجأة نهض كما لو أنه شخص آخر ـ با نقتل عمتي . .لا حل سوى هذا !أشرق وجه مدهش . . ثم رقص فرحاً. ـ هكذا يكون الرجال ! ! قد قلنا هذا من زمان ؛ قالوا اخرج من البلاد ! ! ـ أيوه ! ! وأنت معنا ياعم ! ـ لا . . أنا خلينا على جنب . . أنا دوري الجميع يعرفوه من زمان ـ لا . . ما يخارجش . . بيع وشراء . . نحن با نقتل مش با نلعب ! ـ خلاص با خلي واحد من عيالي يشارك معكمـ ونكتب اتفاق بتحمل المسؤولية . . ننجح مع بعض ، أو ندخل السجن مع بعض . . راضي ؟ اتفقنا . . مش راضي يفتح الله ! ! ـ أنت إبليس ! ! ـ طالع لك يا عم ! !ـ اتفقنا !ـ اتفقنا بدأت الشمس تميل نحو المغيب عندما التقى الجميع للتنفيذ . . ومع ذلك فقد اتفقوا على ضرورة الجلوس قليلاً لمزيد من تدارس الخطة ، ومضغ القات الذي اشتراه لهم العم مدهش وولده قشيع ..قال قشيع : ـ اسمحوا لي الليلة با أخر التخزينة ! !ـ ليش . . ؟ـ أشتي هذا العمل ينجح مئة بالمئة أولا .ً.ما أشتيش أي احتمال للخطأ ! ! ـ مليه خزن ! ! ـ لا . . مش الآن . . بعد ما نخلص العمل وأطمئن .. شوفوا المسألة ربح وإلا سجن ،وربما موت ! ! كان يكتفي بالنظر إليهم من طرف خفي . . لكنه ظل كذلك يتجنب إشعارهم بذلك . . وفجأة خاطب الجميع : ـ هاه . . كيف القات ؟ لم ينتظر الإجابة ، بل راح يقهقه على غير عادته . . ومع ذلك لم يعره الشباب اهتمامهم . . فربما كان كل واحد منهم يفكر فيما يخصه ، أو يهمه في هذه الصفقة .