إن الشاعر الكبير هو من يشعر بجوانب الحياة فتستخرج من شعره صورة جامعة لكل شيء فيها وفلسفة خاصة او نظرة خاصة الى العالم كما يدركه هو ويراه فمثل هذا الشاعر اذا سألت عن صورة الحياة عنده او عن فلسفته في الحياة امكنك ان تجدها مفرقة في شعره ناطقة بسعة نفسه واشتمال قريحته على كل ما حوله اما الشاعر الذي تحاول ان تعرف كيف احس بالحياة في جملتها فلا تعرف لها صورة جامعة في شعره ففيم تسميه شاعراً كبيراً وكيف تفرق اذن بين الشاعرية وصياغة الالفاظ واللعب بالاوزان ؟ فمثلاً صرخة المتنبي في زمنه الموبوء : اما في هذه الدنيا كريم تزول به عن القلب الهموم اما في هذه الدنيا مكان يسر بأهله الجار المقيم تشابهت البهائم والعبدى علينا والموالى والصميم وما ادري اذا داء حديث اصاب الناس ام داء قديم اذا قرأت هذه الابيات في كراس او في صحيفة لعرفت للوهلة انها ابيات لشاعر ابتلى بالناس وظلمهم فكانت هذه الروح المتكبرة المطوية على سره " القى الغموض فيه من اول تاريخه وهو سر نفسه ، وسر شعره ، وسر قوته ، وبهذا السر كان المتنبي كالملك المغصوب الذي يرى التاج والسيف ينتظران رأسه جميعاً فهو يتقي السيف بالحذر والتلفف والغموض ويطلب التاج بالكتمان والحيلة والامل كما يعبر اديب العربية مصطفى صادق الرافعي . لعل من ابدع ما قرأت مقالاً للاستاذ العقاد تحت عنوان " الصحيح والزائف من الشعر " يستهل العقاد مقاله بسؤال : " كيف نعرف الشعر الزائف من الشعر الصحيح ؟ ويجيب مستطرداً : سؤال جوابه عندي كجواب من يسأل : كيف نميز بين ضروب الاحساس ؟ فالاحساس القويم الصالح موجود ينعم به او يشقى به اناس كثيرون والشعر الجيد الصحيح موجود كذلك يقوله الشعراء ويقرأه القارئون ولكن التمييز بين احساسين كالتمييز بين شعرين امر يرجع الى شخص المميز وملكاته واطواره ومطالعاته وليس الى قاعدة مرسومة ومعرفة كالمعرفة الرياضية التي لاتختلف بين عارف وعارف " ثم يسوق الاستاذ العقاد ابياتا من قصيدة ابن الرومي في رثاء ولده " محمد " وهي مرثية من عيون الشعر والتي يقول فيها : محمد ما شيء توهم سلوه لقلبي الا زاد قلبي من الوجدارى اخويك الباقيين كليهما يكونان للاحزان اورى من الزند اذا لعبا في ملعب لك لذعا إذا لعبا في ملعب لك لذعا فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد فما فيهما لي سلوة بل حزازة يهيجانها دوني واشقى بها وحدي يقول الاستاذ العقاد : كنا نجمع على انها خير ما قيل في الشعر العربي في رثاء ولد الا رجلا لا بأس باطلاعه كان يقول : ولكن احسن من هذا قول ابن نباته في رثاء ابنه : قالوا فلان قد جفت افكاره نظم القريض فما يكاد يجيبه هيهات نظم الشعر منه بعدما سكن التراب وليده وحبيبه وجعل يعجب من " وليده وحبيبه " التي فيها تورية بالبحتري وابي تمام ! ويقول ان في هذا لمعنى وان فيه لحسناً . فسألته مستغرباً او تمزح ؟ فكان استغرابه لسؤالي اشد من استغرابي لاعجابه وتفضيله وسألني وهو لا يشك في صدق رأيه : وما الذي تنكره من هذه الابيات ؟ قلت : انكر منها ما انكره من شراب كريه يمزج بين ألم التكل وعبث التورية والتنميق وانكر منها ما انكره من رجل اذهب اليه لاعزيه في ولده فألفه يستقبل المعزين بأكل النار واللعب بالبيض والحجر وغير ذلك من الاعيب الحواة وانكر منها ما انكره من رجل يزوق رسائل النعي او يكتبها على دعوات الافراح ويخيل إلي ان ابن بناته هذا كان يتربص بإبنه الموت ليلعب في مأتمه هذا اللعب الصبياني العقيم اما ابن الرومي فلا يلعب ولا يهزل ولا هو ينظم الشعر الا لتفريج كربة والتنفيس عن صدره وهو بعد والد مقروح نشعر معه بألمه المضيض كلما رأى ولديه يلعبان لا هيين عنه ولم يربينهما اخاهما المفقود ، ثم هو لا يحس الا ما احسه كل والد فقد ولده واصيب بمثل مصابه وشهد بعينيه صغيرة المريض يذوي على الايدي ويموت نفساً بعد نفس وهو لا يدفع عنه اجلاً ولا حيلة له فيه ، ولكنه يقول ما ليس يقوله كل والد اذا نظم في رثاء ولده لانه يضع الاحساس البسيط في اللفظ البسيط وليس هذا الذي يفعله كل ناظم يحاول ان يحصر احساسه ويعرف منه مكمن الداء ومبعث الالم والشكاه . هذا مثال يقدمه العقاد الناقد او الكاتب الجبار كما اطلق عليه الزعيم سعد زغلول يبين الفروق بين الصحيح والزائف في الشعر والبلاغة يوضح مذهبه في النقد ونظرته الى المعاني وتقديره للشعر .
|
ثقافة
قراءات و نصوص
أخبار متعلقة