تم إجهاض آخر محاولات تفجير الفتنة الطائفية في مصر، والتي تمثلت في دعوى قضائية أقامها شاب يدعى محمد حجازي يعلن فيها أنه تحول للمسيحية ويطلب من أجهزة الدولة الاعتراف بذلك وتعديل البيانات الخاصة بديانته هو وزوجته التي قال إنها فعلت نفس الشيء في كل الأوراق والمعاملات الرسمية. الأضواء الإعلامية التي سلطت على القضية أعطتها أبعاداً خطيرة ونشرت جواً متوتراً دخله على الفور بعض المتعصبين ومحترفي التهييج الطائفي، واستحضر الكثيرون حكاية وفاء قسطنطين التي شغلت الرأي العام لشهور في العام الماضي حين قيل إنها تريد أن تدخل الإسلام، خاصة أن زوجها رجل دين تابع للكنيسة المصرية، وانتهت حكايتها ببقائها على حالها. كما استحضر البعض الأقاويل والإشاعات التي تكاثرت على مواقع الإنترنت والفضائيات الموجهة والجهات الخارجية عن اختطاف فتيات مسيحيات، تبين بعد ذلك أنها غير حقيقية وقد يكون بعضها مرتبطاً بعلاقات زواج شرعية. كما استحضر البعض حوادث هنا وهناك كان أطرافها مسلمين وأقباطاً وكانت في معظمها انعكاساً لمناخ غير صحي تتداخل فيه عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية، وقوانين بالية، ومعالجات قاصرة. لكن الفتنة هذه المرة تم حصارها بسرعة حين تبين أن القضية مرتبطة بتنظيم خارجي يدعى «منظمة مسيحيي الشرق الأوسط»، مقره في كندا، وتم القبض على اثنين من الناشطين يعملان لحسابه في مصر بتهمة «التنصير وازدراء الدين الإسلامي ونشر قرآن محرف» وسارعت الكنيسة المصرية بإدانة الواقعة، وإعادة تأكيد احترامها للدين الإسلامي وتمسكها بالعلاقات الأخوية التي ربطت بين مسلمي مصر وأقباطها. وأعلن المحامي القبطي المصري الذي أقام الدعوى القضائية باسم حجازي وزوجته انسحابه، ربما بتوجيه من الكنيسة المصرية التي أرادت ألا يكون لأقباط مصر أي علاقة بهذه القضية ولا بالمنظمة المشبوهة، كما سارعت بقية الطوائف المسيحية التابعة لكنائس أخرى غير الكنيسة المصرية )مثل الإنجيليين والكاثولي (إلى إعلان تبرئها مما حدث ومن المنظمة التي كانت وراءه. هدأت الضجة، إلى أن نصطدم بحادث آخر، فالمؤامرات على الوحدة الوطنية لن تتوقف، والارتكان من جانبنا إلى صلابة هذه الوحدة في وجه التحديات التي واجهتها على مدى عقود، لا ينبغي أن ينسينا الحاجة إلى جهد دائم على كل الجبهات ـ الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ـ من اجل الحفاظ على وحدة مصر الوطنية وسط مناخ إقليمي وعالمي تتصاعد فيه موجات الانقسام العرقي والديني. متانة الوحدة الوطنية في مصر على مدى تاريخ طويل، لا ينبغي أن تجعلنا نغض الطرف عما يجري حولنا، وداخل أوطاننا، وما ينتظرنا من تحديات هائلة في المستقبل القريب. إن التآمر على الوحدة الوطنية في مصر وفي كل الأقطار العربية لم يتوقف®. لا على يد الاستعمار القديم، ولا على يد الاستعمار الجديد الممثل في أميركا التي تسعى للسيطرة على مقدرات المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي رأت أن عدوها الأكبر في المنطقة هو القومية العربية، وعملت منذ البداية على زرع الانقسام بين الدول العربية من ناحية، ثم على ضرب وحدة كل دولة من الداخل لتغرق في مشاكلها ونزاعاتها الدينية والطائفية والعرقية من ناحية أخرى. ظلت مصر قادرة على مواجهة هذه المؤامرات بوحدتها الوطنية الراسخة®. قبل الثورة كان حزب الوفد يعكس القيم التي جسدتها ثورة 19، وكان مصطفى النحاس يتمسك بعلمانية الدولة ويرفض تنصيب الملك في الأزهر الشريف، وكان مكرم عبيد هو الرجل القوي في الحزب حتى انفصاله الذي مثل انتكاسه وطنية للحزب وللدولة، وكانت مصر تؤدي رسالة بالغة الأهمية في العالم العربي في الثقافة والفن تحمل قيم التسامح في أعلى درجاته. وبعد الثورة، واصلت مصر طريقها بوسائل أخرى، وخاضت الحرب والمعارك المتوالية ولكن ظلت وحدتها الوطنية هي قدس الأقداس®. حمتها بتطورات هائلة على طريق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، لينخرط الكل في بوتقة العروبة. وحتى عندما صدرت قرارات التأميم وقيل أن نسبة المسيحيين بين الذين طالتهم كانت كبيرة، فإن ذلك لم يصمد أمام حقيقة أن معظم هؤلاء لم يكونوا من أقباط مصر بل من المسيحيين الأجانب وورثتهم. اختلف الوضع مع تولي السادات مقاليد الحكم، حين استعان بالاتجاهات الإسلامية المتشددة لمحاربة اليساريين والقوميين، وأطلق على نفسه لقب «الرئيس المؤمن» وكأن غيره لم يكونوا من المؤمنين®. ورغم رضا وتشجيع الإدارة الأميركية التي اعتبرت ذلك خطوة هامة في «الحرب الباردة» التي تخوضها ضد الاتحاد السوفييتي. وفي الحرب المستمرة التي تخوضها ضد القومية العربية من أجل السيطرة على المنطقة، إلا أن تياراً في السياسة الأميركية مدعوماً من اللوبي اليهودي كان يسعى لضرب علاقة السادات بالأميركان ولخلق المتاعب الداخلية في مصر، وهكذا جرى تشجيع بعض الأقباط المهاجرين في أميركا لترويج مزاعم عن اضطهاد الأقباط في مصر مستغلين تنامي قوة المتشددين وجماعات التكفير ووقوع بعض الأحداث الطائفية التي انتهت بمقتل السادات نفسه بأيدي من تحالف معهم من قبل! خاضت مصر بعد ذلك صراعاً مريراً ضد هذه الجماعات انتهت بضربها وسجن الآلاف من أعضائها، ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى مراجعات من زعماء هذه الجماعات تخلوا فيها عن العنف وتم الإفراج عنهم، لكن ذلك لا يعني أن الصفحة طويت وأن الأخطاء قد زالت.. فهناك آثار ثلث قرن تعرضت فيه مصر لثقافة التخلف والتعصب وامتهان العقل. وهناك تطرف يواجه تطرفاً على الجانب الآخر. وهناك واقع اقتصادي يضغط على الملايين من الشباب الذين يعانون من البطالة ويعانون أكثر من عدم تكافؤ الفرص. وهناك نظم للتعليم تحتاج لإصلاح شامل، وهناك شارع سياسي شبه ميت وأحزاب سياسية مهجورة، وهناك زواج غير مقدس بين السلطة والمال يوفر ظروفاً لانتشار الفساد، ويوفر أيضاً الظروف لإجهاض الحرب عليه! وفي مثل هذه الأوضاع يصبح طبيعياً أن تنشط محاولات اختراق الجبهة الداخلية وليست حكاية الشاب محمد حجازي وزوجته إلا إحدى هذه المحاولات، وهي لا تستهدف التبشير بقدر ما تستهدف إثارة الفتنة. ومع ملاحظة أن المنظمة المشبوهة التي قامت بها مقرها في كندا، وأن الجاسوس العطار الذي أدين مؤخراً تم تجنيده في كندا أيضاً من جانب المخابرات الإسرائيلية التي استغلت شذوذه والتقطته ليعمل في تجنيد مصريين من المهاجرين إلى هناك خاصة من الأقباط®. فلا شك أن المطلوب من قصة حجازي ليس أن تكسب المسيحية شاباً خائباً، بل أن تثير الفتنة بين أقباط مصر ومسلميها بعد حملة دعائية تتحدث عن تحول شاب إلى المسيحية، وتكون الصدفة أن اسمه «محمد» وأن زوجته التي تحولت معه هي بنت عائلة من الفلاحين البسطاء اسماها والدها «أم هاشم» « تبركاً» بالسيدة زينب رضي الله عنها!! وبالطبع فليس الأمر مقطوع الصلة عما يدور في المنطقة التي يراد لها أن تغرق كلها في بحر الحروب الدينية والفتنه الطائفية. وعندما يتحدث الرئيس الأميركي عن «الأنباء الطيبة» القادمة من العراق، في الوقت الذي تتحدث فيها تقارير مستقلة لمنظمات أميركية موثوق بها عن تجاوز الضحايا من العراقيين لرقم المليون®. فنحن أمام ضرب من الجنون! وعندما يترافق ذلك مع انهيار العملية السياسية وانسحاب الوزراء السنة والعلمانيين وصرخات زعيم كتلة التوافق عدنان الدليمي ومناشدته قادة الدول العربية التدخل لإنقاذ العاصمة بغداد التي يجري تحويلها إلى ثكنة للميليشيات الشيعية، فإن الأمر خطير حتى لو كان في الصورة شيء من المبالغة التي لا تنفي ضلوع البعض في الحكومة نفسها في المذابح الطائفية». الأمر خطير لأن المأساة العراقية لن تقف عند حدود العراق المنكوب. ولأن الإدارة الأميركية تسعى لوضع العرب أمام خيارين: إما «الذهاب» إلى المأساة بأنفسهم للمساعدة في تأمين خروج مشرف للأميركيين، وإما «انتظار» المأساة حتى تنتقل إلى كل المنطقة®.وهي على حال لن تتأخر كثيراً بفضل السياسة الأميركية الخرقاء. فإذا أضفت إلى ذلك استعداد إسرائيل لتوجيه ضربة لسوريا، وسيناريوهات أميركية لا تستبعد ضربة لإيران إذا تعذرت الصفقة معها®. فلنا أن نتصور عمق التحديات التي نواجهها، ومقدار الجهد الذي ينبغي أن يبذل في دولة مثل مصر للحفاظ على جبهة داخلية موحدة تستطيع المواجهة والصمود في هذه الفترة الصعبة. ولنا أن نتصور في المقابل مقدار الجهود التي يبذلها العدو لضرب هذه الجبهة والنيل منها. وما نحتاجه هنا لا يتحقق بالأغاني العاطفية ولا باجترار التاريخ ولا بالعناق أمام الكاميرات وترديد أن كل شيء جميل، وإنما بالاعتراف بأننا جميعاً لسنا بخير، وبأننا نحتاج إلى إعادة النظر في الكثير من أمورنا قبل فوات الأوان. فنحن بحاجة إلى حرب لا تتوقف ضد الفساد، ونحن بحاجة إلى إصلاح سياسي حقيقي وحرية تتسع لكل الآراء، ونحن بحاجة إلى ثقافة تنحاز للإنسان وتعكس قيم العدل والحرية وتعلي من قيمة العقل. ونحن بحاجة إلى فكر ديني ينشغل بهموم الناس وينطلق من قاعدة أساسية في الإسلام تقول: حيثما كانت مصلحة الأمة يكون شرع الله، بدلاً من الانشغال بفتاوى إرضاع الكبير والتبرك ببول النبي صلى الله عليه وسلم. ما نحتاجه كثير، والوقت قليل، والخطر داهم. لكن المهم أن نبدأ، وان يشعر الناس أننا على الطريق الصحيح. نقلاً عن/ صحيفة البيان الاماراتية
إنها المعركة المستمرة حول الوحدة الوطنية
أخبار متعلقة