أضواء
فهد سليمان الشقيران :كان صدى طرح «الحداثة» عربياً له طابع «العراك» خاصةً في مرحلة تغذت فيها الحركات الإسلامية على أدبيات الصراع الفكري ودخلت على خط التكفير، وقد ساهم ذلك العراك في تأخير سير الحداثة نحو الهدف المرجو ، غير أن تلك الملاحظة التي تطرح كثيراً خلال التحليلات التي تتحدث عن «انسداد التنوير العربي» أهملت دور «الحداثيين» في تأخير الحداثة، وهو الدور الذي يمكن رصده خلال دراسة أوسع.يمكن أن تتعرض لتاريخ صراع الحداثيين مع خصومهم وكيف سارت بهم الأمور ، ومن جهة أخرى فإن الحداثة أيضاً لم تتبروز على هيئة مشاريع فلسفية ثقيلة في بداية طرحها عربياً، وإنما انبجست عبر كتابات هي أشبه بالخلاصات الناقصة والمليئة بالأخطاء، كما هو حال تأملات «الطهطاوي» الذي وقع في مغالطات إبان حديثه عن «هوبز» وقام بشرح ناقص لبعض النظريات التي عرفها أثناء رحلته لباريس.عبد السلام بن عبد العالي في كتابه الأخير (في الانفصال) يتحدث عن هذه الإشكالية بشيء من التوضيح، فهو أعجب بنص نقله عن عبد الله العروي جاء فيه: (إن ثلثي بل قل ثلاثة أرباع النقد الأيديولوجي يظهر عندنا على شكل نقدٍ أدبي، فيتخذ الرواية والقصة والمسرحية كوسيلة لترويج الأفكار السياسية والاجتماعية، ومحمد عبده وسلامة موسى، وطه حسين روّجوا لأفكارهم التجديدية، بواسطة دراستهم للأدب العربي قديمه وحديثه) ويستدل على صحة رصد العروي بأن مؤلفاتٍ ككتاب طه حسين في الأدب الجاهلي، ساهمت في ترويج المنهج الديكارتي أكثر مما روجت له كتابات عثمان أمين! رغم كون الأخير يقوم بشروحات فلسفية بحته، واستدل أيضاً بغياب تأثير كتب أخرى هامة وحوت أخطر الأفكار الحداثية في وقتها، ككتب زكي نجيب محمود خاصة كتابه نحو فلسفة علمية، وكتاب عبد الرحمن بدوي الزمان الوجودي. كان التأثير ضعيفاً برغم النفَس الهادئ الذي طبع تلك المرحلة مقارنة بردة الفعل العنيفة التي ستقوم بها الأصولية ضد الحداثة ستزداد عنفاً في العقود التي تلت انفلات حركة الإخوان وصعود حركات الإسلام السياسي. يمكن أن نطرح سؤال ضعف التأثير الذي لم يكتمل مع الأخذ بالاعتبار ظروف تلك المرحلة المصبوغة بلون مقاومة غبار الاستعمار، وحيث بدء تشكّل الدولة القُطْرية وثبات الارتباك السياسي الذي أخذ يحرس الاستبداد مع قدوم الحكومات العسكرية التي أخذت مشروعيتها على دعاية محاربة الاستعمار. تلك مرحلة حيوية من الجيد وضع تأريخ تحليليّ لها، برغم أن مدرسة طه حسين لم تنقرض خاصةً وأن بعض الباحثين في الفلسفة يصرّون على أبوته الروحية لهم خذ مثلاً: محمد أركون، وحسن حنفي. عودة إلى كتاب (في الانفصال) آنف الذكر، يصرّ بن عبد العالي على تحقيب تاريخ الحداثة إلى جزأين وذلك في تفصيل طرحه تحت عنوان (من تملّك الحداثة إلى التغني بها) فهو يتأسف على تحوّل الحداثة إلى مجرد تنظير ذهني بعيداً عن أي أثرٍ لها على الفن والحياة والعيش، فلم نكن خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم نعقد الندوات المتلاحقة من أجل فهم الحداثة، وما قبلها، وما بعدها، غير أن تلك الحقبة –مع خلوها من التنظير- كانت أقرب إلى الحداثة مما هي عليه اليوم، حيث أخذ الإدراك يسود أكثر فأكثر من أن الثقافة ليست هذراً بقدر ما هي التفاعل النقدي مع الواقع، والآخر، والذات. فهي أكثر من مجرد تشربٍ عادي لنماذج! وصَف المؤلف تلك المرحلة بأنها تحمل بحق الروح التحديثية، مما جعل انفتاحها العملي يفوق اجترارها اللفظي، ورأى أن مرحلتنا الحالية مرحلة تنظير وغناء بالحداثة وأننا لم نتشربها بعد. أصبحت الحداثة مجرد أحلام عادية، فطغت حداثة المباني على المشهد، وغابت حداثة المعاني التي تنبع من تصوّر داخلي للآخر والذات والعالم والكون، لتصبح مجرد استغراق أعمى لوجود زائف يقوم على الترنّم بالقديم والتمسك بالتقاليد بعيداً عن مراجعة تامة وكاملة للموروث الذي يملأ الأذهان. لقد تشبّعت الشعوب من الخرافات والأباطيل، ولا يمكن لهذه الشعوب المغلوبة أن تنفكّ من عقدة هذا الواقع الجاثم إلا عبر قتل كل خرافة لأن الخرافة هي ثغرة كبيرة تهيئ دخول الاستبداد، والويل كل الويل لأمة تعيش على موائد الخرافات والأساطير وكلما خفّت الخرافة نصعت صورة الواقع السائب الضائع فتشكّلت «إرادة التغيير» لدى كل فرد ليتخلص من واقعه السيء ومراراته المؤلمة. من هنا تطرح الحداثة كأداة للانفصال المستمرّ الذي لا ينهي علاقة الكائن بتراثه، وإنما كما يقول هيدغر يجعل علاقة الإنسان بالتراث علاقة موشومة داخل الذات لا يجب أن تدخل في نطاق المزايدة والتوهّم، وأن يطبع «الاختلاف» مسار التفكير، فالاختلاف والمغايرة تغذّي الهوية ولا تلغيها كما يتوهم صغار الشانئين على التغيير والتجديد، قارنوا العالم العربي، القاهرة بيروت، دمشق، بغداد، كيف كانت وكيف صارت! أقول هذا وبين يدي صورة قديمة بالأبيض والأسود لشاطئ «نصف القمر» في المنطقة الشرقية قبل خمسين سنة وكيف اختلف المشهد السابق على اللاحق، إنها توضّح كيف تقهقرت الثقافة وتراجعت لصالح التشدد، كيف كان الناس، وكيف صاروا؟.* عن / جريدة “اليوم” السعودية