غضون
* من منا لم يسمع من رجال الدين المشتغلين بالدعوة والوعظ والسياسة العبارة الذهبية «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها»؟ لا أعتقد أن أحداً لم يسمعها من فم خطيب أو لم يقرأها في كتاب أو مقال لأحد هؤلاء .. وهذه العبارة قالها الإمام مالك قبل أكثر من ألف ومائتي عام تقريباً.. ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم والشعار مرفوع وأزمة «آخر الأمة» قائمة بل كانت ولاتزال تشتد استفحالاً.والمشكلة أن هؤلاء الذين يحلفون الأيمان الغلاظ يشهدون أنه «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» يصرفون الجهد والوقت لإبعاد هذه الأمة عن كل شيء «صلح به أولها» ويكرسون خطاباً موجهاً لآخر الأمة لا علاقة له بخطاب «أولها» بل هو بمثابة دين خاص بهم وشريعة خاصة بهم منفصلة تماماً عن الدين والشريعة التي صلح بها أمر الأولين أو «أولها».* لنقترب أكثر من جوهر الموضوع.. يعرف هؤلاء أن ما صلح به أمر الأمة في «أولها» هو القرآن والعقل وهما رسل الله إلى الإنسان المسلم.. وصلح أمر «أولها» بالشورى والحكمة والموعظة الحسنة والعدل والتسامح واحترام العلم وبالاجتهاد والتجديد والخروج عن المألوف والتعايش مع الآخر ونبذ «ما كان عليه آباؤنا» والمساواة دون تمييز، والاختلاط بين الرجال والنساء، وضمان حقوق الإنسان واحترام الآدمية.. وغير ذلك من المبادئ والقواعد المحترمة التي لاتزال حية..لكن هؤلاء الذين يتكلمون معظم الوقت بلسان الإمام مالك «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» قد ابتعدوا تماماً عن مضمون تلك المبادئ والقواعد والتعاليم.. يعتمدون في خطابهم على الحديث والمأثورات وأقوال الذين أغلقوا باب الاجتهاد أكثر من اعتمادهم على القرآن، ويحتقرون العقل ويسفهون العلم ويحرضون على الكراهية ويمتدحون الإرهاب وينظرون للفرقة ويحاربون كل جديد ويعتبرون الديمقراطية مؤامرة كفرية ويعتبرون حقوق الإنسان بدعة وحرية الفكر كفراً ويحاربون التعايش وينادون بالحرب على الآخر ويقسمون الدنيا إلى دار كفر ودار إيمان.. فبالله عليكم هل بهذا «صلح أول هذه الأمة»؟.* داعية يقول للناس إن من قال بجواز الاختلاط بين الرجال والنساء يقتل.. فهل بهذا ومثل هذا الفصل القاسي بين الجنسين صلح أول هذه الأمة؟ هل صلح أمر هذه الأمة في «أولها» بالجمود على الموجود وتمجيد الخرافة و«العلاج بالقرآن» وبالسبع التمرات التي تذهب السم والسحر وبتقسيم المؤمنين الى طوائف وبمعاداة الآخر وبتأييد الإرهاب وإباحة الدماء المحرمة وحرمان النساء من الحرية وتحريم الموسيقى والشعر والغناء؟ هل أصلح أول الأمة انفتاحها على الدنيا وحب الحياة وحماية البيئة أم الانغلاق وكراهة الحياة والفساد في البر والبحر؟ هل صلح أمر الأمة في أولها بالأحزمة الناسفة والعمليات الانتحارية أم بإعلاء كرامة الإنسان وبالحكمة والموعظة الحسنة؟.