المقاربة النقدية المعاصرة في اليمن
سلطان عزعزي يزخر المشهد الأدبي في اليمن ، بتعدد وتنوع الاشتغالات النقدية ، وتتخذ هذه الممارسات عناوين وتسميات مختلفة : قراءة ـ مقاربة ـ إضاءة ـ مكاشفة ـ دراسة . . الخ من التفريعات والعناوين الكثيرة التي تتصدر هذه المقاربات .. إلا أنه وخلال السنوات الأخيرة شهدت المقاربات الشمولية للنص تراجعاً ملحوظاً، لصالح المقاربات التي تدرس جانباً من جوانب النص الأدبي ، كما تعددت سبل مقاربة النص ، بغض النظر عن طبيعة التعامل القرائي للنص ،والطرق الإجرائية والمناهج المتبعة في هذه التناولات ، وسواء أتخذت في سبيل ذلك مسلكاً منهجياً صارماً ، أو أتخذت منحى قرائياً ، أو تأويلياً ، أو وصفاً انطباعياً ، فإنها في محصلتها الأخيرة ، تشكل توسطاً قرائياً .وبقدر ما يشي هذا التنوع بالحيوية والعافية في هذا الحقل الأدبي ، إلا أنه يشير بالقدر نفسه إلى بعض المظاهر الإشكالية ، التي تلازمه ، وتظهر أحياناً في هكذا ممارسة نقدية واشتغال قرائي، إن الاشكاليات المحايثة للنقد الأدبي رغم تشعبها، ليست منعزلة عن المناخ الثقافي العام السائد، ـ الذي يحيط بالمشتغل بهذا الحقل وبقدر ما تتعلق بهذا المناخ فانها ذات علاقة بالمشتغلين بهذا المجال ، والمرجعية والمنطلقات الايديولوجية التي يعتمدونها ، ويتعلق بعضها الآخر بمستوى الابداع الأدبي نفسه .إن الاصدارات والمطبوعات التي تكرسها المؤسسات الثقافية ، دون أدنى عناية ممكنة بمحتوى هذه المطبوعات، وتحقيقها الحد الأدنى من المعايير التي تنسبها إلى حقل الابداع الأدبي أو إلى جنس من اجناسه المختلفة ، وعدم توقف الأمر عند الاصدار، بل يتعداه إلى الاحتفاء الإعلامي والدعائي بهذه الاصدارات وأصحابها، وتسويقهم عبر أقلام وندوات، وقل مهرجانات ان شئت، وتستغل بعض المؤسسات هذا الفعل للترويج لنفسها، علاوة على حضور الاستهلالات والمقدمات التي تمهر الصفحات الاولى والاغلفة الخارجية، والتي تستخدم اسماء واقلام لها من الجاذبية والوجاهة حظاً، وهي حالة اعتدنا عليها، والأمر اللافت، ان بعضها لايغدو استهلالاً أو تصديراً تعريفياً عابراً ، بل ينحو إلى التحول إلى تعويذة ملازمة للمؤلف والكتاب ، وحصانة لاتفارقه، وتعصمه من نقد النقاد، ومن شر الحساد ، ويبدو ذلك ملتمعاً في بعض تلك التسويقات الكتابية، فهذا الكاتب يتمظهر في بعضها ، شيخاً لقبيلة الشعر ، وذاك زعيماً لايمارى في عوالم القصة ، واخر فاتحاً لم يسبق له مثيل في جبهة المسرح بالاضافة إلى تلك التبشيرات والتنبؤات والالقاب والمسميات، التي يتم اطلاقها باسراف احياناً على العمل الادبي والمؤلف ، حيث لاتكتفي هذه الكتابات بوصف الحالة قيد التناول وحسب ، بل تتعدى تلك الى وصف الأهمية والشأن الكبير الذي سيمثله ابداعياً للمستقبل الأدبي برمته .وتتوازى مع هذا السياق بعض الكتابات النقدية ، ذات النفس التبشيري من خلال عبارات وأوصاف مختلفة ، نحو قصيدة للمستقبل ، وقصص الغذ نص ما بعد الحداثة .. وغيرها من التكهنات التي معها يتحول الناقد ، اشبه ما يكون بالعراف، وقارئي الكف ، والمنجم، الذي خذلته حدوسه ، عن قراءة واقعه المتشظي في النص ، فلم يجد امامه، ، ما يحفز عينيه على التحديق، فراح يجول بهما بين الافلاك والنجوم.ان ثمة روافد عدة تسهم في الحالة النقدية الراهنة، وتغذي جسد الفعل النقدي نفسه ، منها ما يتعلق بالمناخ الثقافي ـ الاجتماعي العام والسائد ، كمستوى وسقف تقبل الوعي الاجتماعي للنقد ووعي المثقف والاديب، والتفاعل معه ، ومستوى العملية الابداعية من ناحية اخرى، وعلاقة ذلك بالناقد وثقافته من جهة اخرى، ولعل المتابع والمهتم بالشأن النقدي في اليمن سيلاحظ ان ثمة ضموراً وغياباً قائماً لايستعصي على المتابعة ، وهذا الغياب النقدي هو غياب في الوعية وليس في الكم ، ان صح التعبير.يذهب الناقد/ محمد اللوزي وهو بصدد التعريف ببعض الاشكالات التي يعايشها الناقد الأدبي المتوسم بالجدية، إلى القول: النقد يساوي العداء في مسرح الواقع ، وهي صورة مصغرة لديمقرطية الثقافة القائمة على الشعار ، لا على الممارسة .. ان مناخ كهذا، اقدر على تفهم تراجع وانطواء عدد من الكتاب ، جيل السبعينات والثمانينات ، عن استمرارية الاشتغال النقدي، وبعض نماذج هذات التواري ـ الناقد/ عبدالودود سيف، عبدالرحمن فخري عبدالباري طاهر، أحمد ناجي أحمد ، فيصل صوفي، عبدالله سلام ناجي ، حسن أوسان، محمد اللوزي ، عبدالله علوان .. وآخرون.ان هذا الاكتفاء لعدد من الاقلام التي اسهمت مبكراً في صياغة ملامح المشهد النقدي إلى جانب عدد آخر كالدكتور/ عبدالعزيز المقالح، قد يجد تفسيراته لهذا الغياب فتبريرات اخرىـ لكن ما من شك بأن المناخ الطارد للنقد يقف في المنتصف من هكذا اسباب في تصوري على الأقل .أما الاشكالية التي تتعلق بميدان النقد والمشتغلين عليه فتتمظهر في ذلك التمركز والتخندق المتين للناقد حول المرجعية ـ المنهجية احياناً والايديولوجية أحايين اخرى ـ ويبد أشد حضوراً في النزوع للاعلا من شأن الطرح والقراءة النقدية واعتبارها القراءة الوحيدة الممكنة للعمل الأدبي والحسم احياناً بأن ما يطرحونه من النقد هو الحقيقة العلمية التي تمت المصادقة عليها ولم تعد من تقبل النقاش وتسلب على ما دونها من القراءات حق المقاربة، وكذا التهافت والاندفاع حول النظرية والمفاهيم والمصطلحات وما تتركه ذلك من التقليل من شأن الممارسة النقدية ـ التي لاتتم مرة واحدة ، وإلى الأبد فالنقد كما يذهب الناقد " G.How"من الامور التي لايمكن انجازها مرة واحدة، ان اهم المزالق التي يقع فيها هذا الاتجاه هو محاولته فرض طريقة ودائقة واحدة للتعامل مع النص الذي ينجم عنه نوعاً من العنف الرمزي فالخطاب الذي يطرح نفسه باعتباره صوت الحقيقة هو خطاب سلطة بحسب، ميشيل فوكو.إذ انه لايلبث ان يكون معياراً للتقييم بل يتحول إلى وسيلة للمراقبة والتوجيه.وحين يتلبس الخطاب ادارة الحقيقة فانه يتحول إلى مشروع يؤسس لممارسة خطاب النبذ .ان الاشتغالات والممارسات النقدية، التي يمور بها المشهد النقدي في اليمن والذي يتوزع إلى اتجاهات ومنابع وتيارات فنية وفكرية شتى سواء وجدت تعالقاتها المرجعية بالارث النقدي العربي الحديث والقديم والمعاصر، أو بالتيارات الادبية والنقدية الحديثة وما بعد الحداثية في الغرب ـ وهي بقدر ما تشكل لوحة بانورامية متنوعة ومتعددة ومتغايرة، إلا ثمة مناطق تتقاطع عليها من حيث طرق مقاربتها للنص أو من حيث رؤيتها ويرجع تقاطعها في تصوري إلى محددات رئيسية أظهرها:المحددات المعرفية والريوبة.كطبيعة فهم الناقد لوظيفة الأدب والنقد .المنهج النقدي والادوات الاجرائية المتبعة .السياق الثقافي والاجتماعي الذي يشكل جزء من المرجعية النهائية للناقد .ويمكن تصنيف التجليات التي تفرزها هذه المقاربة النقدية المتأخرة اعتماداً على طرق المقاربة والمنهج والرؤية إلى نماذج رئيسة.[c1]النموذج الأول [/c]ويتجلى في تلك الممارسات والتناولات النقدية ـ التي تختزل الأدب في البعد الجمالي للصرف وتركز جل اهتمامها في الكشف عن الفتوحات والبنى الفنية والدلالية للغة.وهو اتجاه يحبس النص داخل سجن اللغة بمعزل عن بنية السياق الاجتماعي والثقافي الذي ينوجد النص في سياقه ويتعايش داخل نسيجه، وهذا الاتجاه يعزل دراسة الموقف من اللغة عن الموقف من المجتمع والسياق الثقافي، والكاتب قد يهزم وتظهر هذه الهزيمة على شكل وعي ادبي، كما لاحظ د. مصطفى ناصف.وينسى هذا النموذج أننا نحاور النصوص للتعرف على قدرتها التحدث الينا عبر اللغة والوعي معاً. ومن المزالق التي يقع فيها هذا النموذج انه يتقبل القيم التي يمررها النص ويسوقها دون مساءلة او حوار قرائي . ومع تاكيدنا على اهمية الانكباب على اللغة التي من خلالها استطاع الناقد الوقوف على دلالة النص باعتبار ان الانزياح اللغوي هو القيمة المضمرة التي تحقق ادبية النص مع بعض الاستثناءات في هذا النموذج التي تحاور النص في سياق تعددية منهجية- تارة بالتحليل واخرى بالتأويل ويحضر في هذا السياق نموذج د/ عبدالله البار في كتابه" في معنى النص وتأويل شعريته وغيرها من الدراسات ذات المنحى الحيوي.[c1]النموذج الثاني[/c]ويتجسد في تلك القراءات والمقاربات الشارحة والواصفة حيث اقتصر تعاملها مع النص على تحليل مستواه الفكري والايدلوجي- والانكباب على المضمون دون ادنى اكتراث بالمستوى الفني واللغوي- ومحاولة استقراء بنية النص للكشف عن بنية الواقع بمعزل عن القيمة الجمالية والفنية للنص - وإصدار الحكم والتقييم تبعاً لذلك.[c1]النموذج الثالث[/c]يتمظهر عبر النزوع التنظيري واللهث خلف المصطلحات والمفاهيم والمقترحات القرائية والاجرائية، والتي يتم تسويقها كقناعات/ ويقنيات حاسمة والترويج للنص وصاحبه من خارج النص دون ادنى جهد للمقاربة والحفر في طبقاته.وكان هذا النموذج يرى في سطير سبراني عالية القصوى دون ان يجعل هذه المفاهيم انبثاقاً حياً لصحة تنظيراته من واقع القراءة والمقاربة.وهو ان فعل يقع في اشكالية التنظير البراني او غز النص من الخارج كما يرى الناقد د/ عبدالله البار.واحياناً يصاب بالعجز إزاء تقديم شواهد حية وقادرة على تقديم نموذج يقترب من صحة الطرح والتنظير ويحضر في هذا الصدد بعض المقاربات لقصيدة النثر.إن هذه النماذج وإن كانت جزء من الصورة للواقع النقدي، فانها لا ينبغي ان تغلق باب التقدير في وجوهنا إزاء حيوية واهمية بعض الدراسات والمقاربات النقدية الجادة التي تجد محدداتها المنهجية ومقاربتها القرائية من خلال النص الذي يقترح اسلوب تعاطي الناقد وادواته الاجرائية.إن النقد حسب- رولان بارت- ليس بأي معنى جسدا من الاحكام او جدولاً للنتائج بل هو جوهر نشاط وسلسلة من الافعال المنشبكة.ولعل اظهر مناطق الانحراف الذي يعتري بعض النماذج النقدية هي في العجز عن اقامة حوار مع النص بعيداً عن الحسم والتصنيف او ليس النقد والقراءة هي امكانية للحوار والاقامة على استكناة ومقاربة النص، وقراءاته والتي لاتنتهي بقراءة وتلقي واحد، بقدر ماتنفتح على هكذا قراءة وتلقي ، كما انها لاتنغلق على معنى واحد ولا تستقر على التصنيف وهو مايؤكد قدرة النص الابداعي تحديداً على الاشعاع والتأثير والادهاش والقدرة على تخطي الازمنة.. وخلق الاثر الفني وخارج المكان وثقافته.