نبض القلم
تخبرنا كتب التاريخ والسير أن الخليفة العباسي محمد المهدي كانت له مواقف حازمة مع الذين يحرفون الدين ويؤولونه، بما يبعده عن حقيقته بقصد إثارة الفتنة في صفوف المسلمين، وإبعادهم عن جوهر الدين ورسالته السامية، التي لاتتصادم مع حقائق الحياة والتقدم. لقد كان للخليفة المهدي نشاط بارز عرف به في خلافته، حيث شمل هذا النشاط مجالات الحياة المختلفة، ذلك أنه كان ينظر في الأمور الصغيرة والكبيرة، وفي عهده اكتسبت الدولة هيبتها لأنه تمكن من القضاء على مثيري الفتن والقلاقل الذين ظهروا في أكثر من ناحية من نواحي دولته. ومما يذكر أنه لما مات أبوه أبو جعفر المنصور، بويع المهدي بالخلافة خلفاً لأبيه ، خطب في الناس قائلاً: ( إن أمير المؤمنين دعي فأجاب ، وأُمر فأطاع ) ثم اغرورقت عيناه بالدموع فبكى، فقال: ( قد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند فراق الأحبة ، وقد فارقت عظيماً ، وقلدت جسيماً، فعند الله أحتسب أمير المؤمنين، وبه استعين على خلافة المسلمين) ثم قال: ( إيها الناس، أسروا مثل ما تعلنون من طاعتنا، نهبكم العافية وتحمدوا العاقبة ، وأخضعوا جناح الطاعة لمن نشر عدله فيكم، وطوى الأمر عنكم، وأهال عليكم السلامة، والله لأفنين عمري بين عقوبتكم والإحسان إليكم). ونستشف من هذه الخطبة التي استهل بها المهدي خلافته أنه عقد النية على الحزم مع المنحرفين والخارجين على النظام، أولئكم الذين استغلوا الدين، للتغرير بالناس وتضليلهم وخداعهم ، واستثارة، عواطفهم الدينية، فهو في خطبته يوصيهم بالإخلاص في العمل والقول، وأن يكون ظاهرهم كباطنهم، وسرهم كعلانيتهم ، حتى لايتفشى النفاق بين الناس، وحتى لا يظهر في المجتمع محترفو فن الدجل ، ممن يرتدون ثياباً لا تصلح لأن يظهروا بها في كل وقت، وفي أي مكان، فهؤلاء آفة الأمة، وسبب فرقتها وشقائها، فلأ عجب إذا توعدهم المهدي، لأنه لايريد أن يكونوا سبباً في شق صفوف المجتمع وتفريق الأمة، لذلك طالبهم بأن يكونوا مخلصين ومواطنين صالحين ، ومن انحرف منهم فهو معرض لأقصى العقوبات ، أما من سار منهم على الخط المستقيم فإنه سيلقى الإحسان جزاء استقامته. ولعل من أهم ما تميز به حكم المهدي أنه تتبع المنحرفين الذين اشتهروا بتأويلاتهم الفاسدة للدين ، وهم الذين سموا بالزنادقة الذين استخدموا كل وسائل المكر والخداع، والوسائل السرية، والمكايدات لتضليل الناشئة والشباب، فاستعملوا طرائق متعددة للغواية تحت مظهر الغيرة على الإسلام، وهو ما تفعله قوى التمرد والإرهاب في أيامنا. ولقد لجأ المهدي إلى اتخاذ إجراءين لمقاومة الزنادقة والقضاء عليهم أحدهما وقائي والآخر علاجي. أما الإجراء الوقائي فقد قام بإنشاء هيئة علمية لمناظرة الزنادقة ، وأمر بتأليف الكتب للرد عليهم، وهدفه من ذلك مقارعة الحجة بالحجة، من خلال الحوار، ومجادلة الرأي بالرأي. وهذا هو واجب العلماء المستنيرين ، والمفكرين والحكماء في كل زمان، وبالذات في أيامنا هذه، التي ظهرت فيها نماذج مماثلة للزنادقة، ممن يعمدون إلى تحريف المفاهيم الصحيحة للدين، بقصد طمس معالم الحق، وصولاً إلى تحقيق أغراضهم الشخصية ونواياهم الخبيثة، فعلى علماء الدين المتنورين، والمفكرين الغيورين أن ينهضوا من سباتهم، ويبرزوا تعاليم الإسلام السمحة، التي تؤكد حق الإنسان في الحياة الكريمة التي يتوافر فيها العمل المناسب لكل فرد في المجتمع، والملائم لقدراته واستعداداته ومواهبه وإمكانياته، وحقه في الأجر المناسب لكل عمل يؤديه، امتثالاً لقوله تعالى: ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى × وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) (النجم ، 39 -40 ). أما الإجراء العلاجي الذي اتخذه المهدي فهو قيامه بإنشاء إدارة مختصة بملاحقة الزنادقة ومطاردتهم ومحاكمتهم وإنزال أقصى العقوبات بحقهم، وعين لها مديراً سمي بصاحب الزنادقة، ويروى في ذلك أن المهدي نزل مرة إلى البصرة وكان معه صاحب الزنادقة، فدفع إليه بشار بن برد وكان من الزنادقة، وقال له : (اضربه ضرب التلف) أي اشدد عليه العقوبة، ولا تأخذك به رحمة، بما يفيد أن الحاكم إذا رأى انحرافاً من بعض فئات المجتمع، من شأنه أن يؤدي إلى بلبلة الأفكار، أو نشر تعاليم لا توائم الدين، أو أنها تسعى لشق الصفوف، وخلق فتنة في المجتمع فعليه أن يكل أمرهم إلى الأجهزة المختصة لملاحقتهم وتتبعهم لإيقاف نشاطهم، حفاظاً على المصالح العامة، وسلامة المجتمع.[c1]* خطيب جامع الهاشمي / الشيخ عثمان[/c]