ما الفرق بين أن تقتل شخصاً واحداً، أو أن تقتل مليون شخص؟ قد تبدو إجابة مثل هذا السؤال للبعض في غاية الوضوح والبساطة، فالمنطق يقول ان الكبير أهم من الصغير، وان الكثير يتفوق على القليل، ولكن هذا هو الحال حين يكون المنطق كمياً، ولكن ليس كل ما في هذه الدنيا كما وعددا. ووفق هذا المنطق، فأن يكون المقتول فرداً واحداً لا ريب أنه أخف وطأة من مقتل المليون فما بالك بالملايين. ولكن لو تعمقنا أكثر، وابتعدنا عن السائد من التفكير، أو لنقل الزاوية المعتادة للنظر، لوجدنا إجابة تختلف عن المعتاد من إجابات. اختلاف الإجابات يعتمد في النهاية على المعيار الذي تستند إليه هذه الإجابات، واختلاف المعايير هو المحك في الأول وفي الآخر للحكم على صحة الأحكام، وعدم تهافت التقويم المتبع. فالمشكلة كانت دائماً تكمن في اختلاط المفاهيم، وتداخل المعايير، فيقوم شيء بمعيار ينتمي إلى بعد آخر، فتكون النتيجة فساد الحكم والتقويم معاً. وحين نقول ان الفرق كبير بين قتل شخص واحد وقتل مليون من الأشخاص، فإن المعيار المطبق هنا هو معيار « الكم»، أي أن القليل أفضل من الكثير في هذه الحالة، بمثل ما أن الكثير أفضل من القليل في حالات أخرى مثل المال ومتع الحياة لدى البعض، ولكن المعيار في كل الحالات واحد، ألا وهو الكم. قد يكون معيار الكم هو الأفضل والأنسب في حالات معينة، ولكن ذلك لا يعني أن يكون هو المعيار الأنسب والأفضل في كل الحالات. من اختلاط المعايير والمفاهيم وتداخلها، تنتج كثير من المعاني الخاطئة، وبالتالي الأحكام المضللة، وربما، بل هو على الأرجح، أحد أسباب التخبط المعرفي ومن ثم السلوكي لكثير من مراحل حياة الإنسان ونشاطه على هذه الأرض. ثارت مثل هذه الأسئلة في الذهن بعد تلك «الفضيحة الأميركية» في سجن أبو غريب، وما تلاها من قضايا وفضائح، وما أثارته من جدل وخصام حول الحادثة وتقويمها في عالم العرب. فبعض قال انها لا تقارن بما يجري في سجون العرب عامة، وما كان يجري في سجون صدام خاصة، وهذا صحيح، فلا يحق والحالة هذه لمن عذب وقتل مئات الآلاف أن يحتج على قتل وتعذيب بضع مئات، في مجتمعات اعتادت على أن السجن يعني بالضرورة التعذيب والقتل والتنكيل، وبالتالي لا جديد في الأمر. فقبل أن يرى العرب القشة في العين الأميركية، عليهم أن يروا الخشبة في أعينهم. وفوق هذا وذاك، فإن من قتلوا أو عذبوا ليس بالضرورة أن يكونوا من الأبرياء، وبالتالي فإن ما فُعل بهم قد يكون مستحقاً، فالعين بالعين، والله يمهل ولا يهمل، وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين: هكذا تقتضي العدالة الإلهية. وبعض قال ان ما جرى في أبو غريب هو فضيحة لكل الزيف الأميركي حول تلك القيم المدعاة، من حرية وحقوق إنسان وغيرها. فالأميركيون، وفق زعمهم، جاؤوا محررين للإنسان في العراق من ظلم الإنسان، فإذا بهم يسيرون على خطى من سلفهم، لا فرق بين بوش أو صدام، بعث العراق أو ديموقراطية أميركا إلا في الدرجة، وإلا فإن الامتهان في كل الحالات واحد. أين الخطأ وأين الصواب في كل ما قيل ويقال؟ الكل مخطئ والكل مصيب في هذا المجال، شيء من الصواب هنا، وشيء من الخطأ هناك، طالما كان معيار الحكم والتقويم مفقوداً، أو أن هذا المعيار غير متعلق بذات الإنسان، بقدر ما انه متعلق بما هو عرض من أعراض الإنسان. فالكل في نهاية المطاف ينطلق من موقف معين يحاول تبريره بشتى الوسائل والأساليب، حتى لو عنى ذلك ضياع المعيار الذي هو كالدفة بالنسبة للسفينة. فمن كان ناقداً لغضبة العرب الأبية حول الممارسات الأميركية في أبو غريب معه حق من حيث أن المحرر قد أصبح مستعبداً في هذه الحالة، ولكن الحق جانبه حين صمت عن ممارسات العرب وغير العرب المتميزة في هذا المجال. ومن برر ما جرى بمقابر صدام الجماعية، وعمليات السمل والسلخ والقلع والجلوس على الخوابير طوال تاريخ العرب، إلا ما ندر، معه حق، حيث أن من بيته من زجاج لا يقذف الآخرين بالطوب، ومن لديه القدرة على رؤية ذرة الغبار في عيون الآخرين، فمن الأجدر به أن يكون قادراً على رؤية القذى في عينه، ولكن الحق يجانبه حين يبرر هذه بتلك، وتلك بهذه. فأن تكون سجون العرب بكل تلك الشناعة والقبح، لا يبرر الصمت أو تقليل شأن ما جرى في أبو غريب، فالخطأ لا يُقابل بالخطأ، والفعل لا يقابل بمجرد رد فعل آني. ما الفيصل بين ما هو حق متماسك وبين ما هو خطأ متماسك في مثل هذا المنطق، كي لا نقع في الخلط، وبالتالي الضياع في ضبابية الأحكام؟ حين يكون الإنسان، بصفته إنساناً دون إضافات لاحقة من لون وعرق ومعتقد، هو معيار الحكم والتقويم، فإن الأمور تصبح أكثر وضوحاً، ونتحرر والحالة هذه من قيود المواقف المسبقة، وأوهام الكهف التي تحدث عنها فرانسيس بيكون، ولا تعود المسألة متعلقة في النهاية بشخص بوش أو شخص صدام، أو بموقف قومي أو ديني أو إيديولوجي لا علاقة له بذات الإنسان، بقدر ما تصبح قضية ما هو أهم من كل شيء في الوجود، أي ذات الإنسان. وأهم من ذلك كله، فإنه عندما يصبح الإنسان هو المعيار، لا يعود لمسألة «الكم» كبير قيمة والحالة هذه. فقتل فرد واحد لا يفرق كثيراً، بل لا يفرق البتة عن قتل آلاف أو ملايين، واضطهاد أو اعتقال فرد واحد يعادل في قيمته اضطهاد شعب بأكمله، فالمسألة لا تكمن في «الكم» بقدر ما تكمن في « الكيف»، أي في قيمة الإنسان وقدسية حياته وحريته وكرامته، وعندها لا يكون هناك فرق بين فرد وجماعة، فلا يضحى بالجماعة من أجل الفرد، ولا يضحى بالفرد من أجل الجماعة، فكلهم في قداسة الحقوق سواء. ففي النهاية، فإن وكما قال تعالى «من قَتل نفسًا بِغير نفسٍ أَو فَسادٍ فِي الأَرضِ فَكأَنَّما قَتَل النَّاس جمِيعًا» ومن اضطهد فرداً فكأنما اضطهد الناس جميعاً، ومن لا يخالج مثل هذا الإحساس أعماق نفسه، ففي إنسانيته شيء من الشك، إن لم يكن الشك كله. ووفقاً لمثل هذا المعيار، أي معيار الإنسان دون تلك الإضافات المصطنعة واللاحقة للميلاد، فإن ما حدث في أبو غريب وغيره مدان بذات الشدة التي يجب أن يدان فيها ما يجري في سجون ومجتمعات العرب وغير العرب، فالإنسان هو الإنسان في كل مكان وزمان، وكرامته التي منحه إياها الخالق منذ الأزل هي المقدس الأساس، وكل قداسة أخرى إنما تتفرع من هذه القداسة الأصلية، فالسبت إنما خُلق للإنسان ولم يُخلق الإنسان للسبت، كما قال المسيح عليه السلام، لا فرق في ذلك بين أميركي أو عربي، هندي أو أوروبي. يقول الشاعر «جون دون» قبل ما يقارب الأربعة قرون، بانه: «ليس من إنسان جزيرة قائمة بذاتها، فكل إنسان قطعة من القارة، جزء من الكل.. وموت إنسان ينتقص مني لأني منخرط في بني الإنسان». فحين تنتفي الإنسانية من النفوس، لا يعود لأي شيء قداسة، حتى المقدس ذاته، وإن قُدس. وعلى ذلك فإن النقد، أي نقد وكل نقد في مثل هذه الشؤون، يجب أن يكون منطلقاً من الإنسان، وإلى الإنسان يعود. ولكن المشكلة دائماً وأبداً تكمن في أننا، أي بني الإنسان، نتعامل مع هذا الإنسان وكأنه شيء من الأشياء، وليس ذلك المخلوق الذي ما خلقت الأشياء إلا لأجله. وفي السياسة، يُتعامل مع هذا الإنسان وكأنه ورقة من أوراق لعبة لا تقدس أي شيء ولا تحترم أي شيء. يُرفع شعار حقوق الإنسان عندما يكون ذلك نافعاً في وقت من الأوقات، ويُنسى الإنسان جملة وتفصيلاً حين لا تكون هناك حاجة لمثل هذه الورقة. ندين ممارسات الأمريكان غير الإنسانية في العراق وغيره، لا انتصاراً لكرامة الإنسان، ولكن لأن من يمارسها هم الأمريكان، ولو كان غير الأمريكان هم من فعل ذلك، فإن للقضية وجها آخر، وباسم الإنسان أيضاً، وهنا تكمن الطامة الكبرى. فحين ينتفي المبدأ، فإن كل شيء يصبح جائزاً، كل شيء يصبح مباحاً، كل شيء يصبح عبثاً. مفكر وأكاديمي سعودي
حين ينتفي المبدأ.. فكل شيء مباح !
أخبار متعلقة