نجوى عبدالقادر اتخذت قضية التراث والموقف من التراث أهمية بالغة عند الدارسين والباحثين في جميع مجالات العلوم الانسانية وكان للشعر والادباء نصيب كبير في الحديث عن هذه القضية التي عقدت في شأنها الندوات والمحاضرات القيمة.كما واصلت الدراسات الادبية والفكرية بحوثها في مجالات النقد والبحوث الاكاديمية, وكان للجميع موقف محدد من التراث وأهميته التي لايمكن الاستغناء عنه أو التخلي عن أي جانب من جوانبه التي تضم ماخلفته الاجيال الماضية من فكر وفن وآثار ملموسة مخطوطة أو ماتناقلت شفاهياً كالاغنية والمثل الشعبي والفلكلور والرقص والشعر العربي والشعر الشعبي وغيرها من نماذج الحضارة والرقي..أما الشعر فكان من الضروري أن يدرس متصلاً بالتيارات الفكرية التي غدته أو قاومته،كذلك لابد أن يتنبه الدارس إلى الحركة التي ظهرت مؤخراً في منتصف القرن العشرين والتي جاءت متصلة بالتراث، وهي حركة التجديد والمحافظة أو حركة التطور والتراث - وقد استقر المثقفون على تسميتها بحركة أو تيار الاصالة والمعاصرة.وهنا بدأ الشعر العربي يبحث عن آفاق مشتركة بين الماضي والحاضر واتجه الشعر إلى مواقف مختلفة في سبيل الربط بين القديم والجديد.. واضعين نصب أعينهم أهمية التراث.. كعامل أساسي في البناء الفني للقصيدة الحديثة. وهنا اتجه الشعر وكتاب القصة والرواية إلى طرق أبواب عدة للتراث منها الأسطورة والموروث الشعبي من قصص وروايات والسيرة الشعبية وأنواع البطولات التاريخية - كعنترة وأبي زيد الهلالي والزير سالم وغيرها من رموز البطولة كسيف بن ذي يزن وخالد بن الوليد وصلاح الدين..وكان للأغنية الشعبية والامثال السائرة نصيب كبير في الأعمال الابداعية الأدبية خاصة في مجال الشعر الحديث حيث لجأ كثير من الشعراء المحدثين إلى البحث عن أسلوب جديد في الرؤية والمعالجة .لاشك أننا إذا تقصينا الأنواع الادبية السائدة في جملتها،فيما تتضمنه من أفكار وصور ومواقف، لوجدناها تدور حول مصير الانسان العربي في كفاحه الطويل وتوقه النبيل لحياة متقدمة منشودة..لقد رفع أدب النهضة رآية المناداة بالتحرر من نير الاستبداد التركي،وكان الادب الوطني أدب التحرر من الاستعمار الاوروبي،وكان ادب مابعد الاستقلال في المشرق العربي،في اكثر صوره،محدداً فيما بين النكبة والنكسة. وكانت السبعينات من قرننا المنصرم أكبر معالم أدب النكسة.لقد توزعت الأدب طوال هذه المراحل،محاور عدة،فإذا كان أدب النكبة يتخذ من قضية فلسطين محوراً أساسياًَ له يطالب باسترجاع الأرض السليبة، فإن الأدب النكسة يدين الواقع العربي ويتصدى للحياة العربية من مختلف جوانبها،وفي مختلف ظواهرها،فهو يعالج الحياة السياسية مثلما يتعرض للاوضاع الاجتماعية،وكثيراً مايلتفت إلى التاريخ بالنقد القاسي الذي يوجهه كذلك للمذاهب والأفكار (هوامش على دفتر النكسة- البكاء بين يدي زرقاء اليمامة- الذي أحرق السفن- الكرنك - محاكمة الرجل الذي لم يحارب).إن المرارة التي يهج بها شعراء وأدباء السبعينات هي مرارة النكسة ومفاجآتها،والتي أظهرت جلياً ان الانظمة والمناهج التي تسير الحياة العربية الحاضرة هي قيود تمنع الابداع والمبادرة،وتمسخ الرجال إلى اقزام مذلين من هنا جاء التفات الاديب إلى التاريخ واستلهامه حيناً،والرفض العنيف للماضي حيناً آخر.إن مسألة التاريخ العربي والرجوع إلى أحداثه تشكل أحد الخطوط الرئيسية في ملامح أدب السبعينات ، وقد كان الشاعر سليمان العيسى في اواسط الخمسينات قد بعث من التاريخ العربي شخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري كواحد من اوائل المناضلين العرب في سبيل العدالة الاجتماعية،غير ان الشعراء الآن يعودون من التاريخ العربي إلى اكثر زواياه اشكالاً في الصراع الداخلي والطبقي والمذهبي .. ولبعض الأدباء اسقاطات من التاريخ لاتهتم بالتحقق التاريخي للشخصية المنتخبة لأنه "لا يهتم ببعث الماضي ولاتمجيده،ولكنه يحاكم الماضي على ضوء المفهومات العربية المعاصرة فيتهاوى الماضي العربي المجيد بين يدي هذه المفهومات ولايسترد الماضي المجيد اعتباره الا حين ينتصب ليحاكم الحاضر". يتضح هذا جلياً في قصة " الذي أحرق السفن" لزكريا تامر".أما في الموقف الشعري من التراث،فهو متفاوت بشدة،فهناك من يؤمنون بالتراث ويعتزون به،وهناك الذين يتوقون إلى التغيير الحضاري،ولكنهم لايدينون الماضي،وانما يدينون "تعهر" الماضي بين يدي السادة في الحاضر:[c1]نعرف القصة من أولهاوصلاح الدين في سوق الشعارات وخالدبيع في النادي المسائي بخلخال إمرأةاو بصورة ثورة جارفة على الماضي أحياناًيا أبي المهزوم يا أمي الذليلةإنني أقذف للشيطان ما اورثتمانيمن تعاليم القبيلة[/c]إن القناع التاريخي الذي يتمثل بشخصية تاريخية يختبئ الشاعر وراءها ليعبر عن موقف يريده،أو ليحاكم نقائص العصر الحديث من خلالها،ويشترك الشعر مع المسرحية الشعرية ( الحلاج وليلى والمجنون لصلاح عبدالصبور) في استخدام هذه الوسيلة ، كما تشترك في ذلك القصة القصيرة (قصص زكريا تامر: الجريمة،والمتهم،والذي أحرق السفن...) ولعل الشاعر العراقي البياتي اكثر الشعراء لجوءاً إلى هذه الوسيلة فهو يقول: "حاولت ان اقدم البطل النموذجي في عصرنا هذا وفي كل العصور (في موقفه ، النهائي ) ، وان استبطن مشاعر هذه الشخصيات النموذجية في أعمق حالات وجودها ، وان أعبر عن النهائي واللا نهائي. وعن المحنة الاجتماعية والكونية التي واجهها هؤلاء ، وعن التجاوز والتخطى لما هو كائن إلى ما سيكون". وقد شمل القناع التاريخي عند البياتي شخصية (الحلاج - المعري - الخيام - طرفه - أبو فراس - هملت - ناظم حكمت) كما شمل المدن (بابل - دمشق- نيسابور - مدريد - غرناطة).وقد اكثر استعمال القناع في الشعر الحديث فمن أقنعة أدونيس: مهيار الدمشقي "شخصية متخيلة" وصقر قريش. ومن أقنعة محمد عفيفي مطر: عمر بن الخطاب ومن أقنعة البردوني "وضاح اليمن".. وهكذا نجد الشعراء المعاصرين يتفننون في اتخاذ القناع،للتعبير عن ذواتهم.فعمر بن الخطاب يعبر عن الحيرة المستبدة تجاه الوجود،وهكذا.ويمثل القناع خلق اسطورة تاريخية - لا تاريخاً حقيقياً- فهو من هذه الناحية تعبير عن التضايق من التاريخ الحقيقي،بخلق بديل له "الاسطورة" أو هو محاولة لخلق موقف درامي،بعيداً عن التحدث بضمير المتكلم،ولكن رقة الحاجز بين الأصل والقناع،تضع هذه الدرامية في أبسط حالاتها،كما أن حضور الأصل باستمرار من وراء الستار - يقلل من التنوع في الأقنعة - على اختلاف اسمائها - فالحلاج عند البياتي في النهاية،حين يقول:[c1]ستكبر الغاية يامعانقيوعاشقي ستكبر الاشجارسنلتقي بعد غدٍ في هيكل الأنوارفالزيت في المصباح لن يجف،والموعد لن يفوتوالجرح لن يبرأ والبذرة لن تموت.. [/c]
|
ثقافة
القناع التاريخي
أخبار متعلقة