مع الأحداث
د. محمد عاكف جمال يشهد العراق منذ سقوط النظام السابق في التاسع من أبريل 2003، ظاهرة سياسية غريبة لم يستطع أن يتنبأ بحدوثها أحد من قبل، وذلك لتعارضها مع ما يضمه الإرث السياسي العراقي الثري من مواقف ومن أحداث تراكمت في الساحة السياسية العراقية على مدى عدة عقود من الزمن، وشهدت على الدوام استقطاباً ملفتاً للنظر سربل مشهدها بالدماء في مناسبات عديدة. إذ لم يحدث في تاريخ العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، في مطلع عشرينات القرن المنصرم، أن وصلت إلى الحكم أحزاب وقوى تنتمي إلى اليمين السياسي (ديني وعرقي)، في ظروف استثنائية لا تجد فيها هذه الأحزاب والقوى غضاضة في إقامة تحالفات مع قوى ليبرالية وقوى يسارية ترى هي الأخرى أن لا غضاضة في هكذا تحالفات.ولعل مما يضاعف من غرابة هذا المشهد هو أن عراب العملية السياسية في العراق والشاهد عليها، الولايات المتحدة، لا تجد نفسها محرجة في استمرار إشرافها على عرض هذا السيناريو المثير للجدل على الملأ، وهي كما هو معروف عنها لا تخفي عداوتها الشديدة لقوى اليمين ذات الطابع الديني الإسلامي، وهي في الوقت نفسه خصم قديم ولدود للحركات اليسارية التي ناصبتها العداء ولم تزل منذ عشرات السنين. قوى اليمين السياسي، العرقية والدينية، هي التي كسبت حتى الآن من توظيف هذه المعادلة السياسية الغريبة في صناعة القرار السياسي في العراق، فقد نجحت مرتين في تحقيق أهدافها: المرة الأولى في وضع أجندتها في قوالب دستورية أكسبتها شرعية برلمانية، والمرة الثانية في حيازتها مباركة القوى الليبرالية واليسارية على ما انتهجت من سياسات، أصبحت تلجم بها أفواه من يشكك في نواياها. أبرز ما جاء به الوضع الجديد في العراق وكُرس في الدستور، بشكل متعجل يثير التساؤلات، هو الفيدرالية التي أصبحت تميز العراق عن بقية دول المنطقة التي لا وجود لمصطلح كهذا في قاموسها السياسي وتخلو دساتيرها منه. والحقيقة أن دخول هذا المصطلح إلى المعجم السياسي العراقي قد جاء مترافقاً مع دخول مصطلح الديمقراطية، وكأن هذه الأخيرة لا تستقيم ولا يتصلب عودها إلا به. ولم تتردد الجهات التي تقف خلف الفدرالية وتروج لها في الإسراع في مد البساط الأحمر لها، وتمهيد الطريق لوضعها موضع التنفيذ، فعملت على تشريع قانون الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم في الثامن عشر من سبتمبر 2007. هذا في الوقت الذي كان فيه معظم العراقيين في أمس الحاجة إلى صدور تشريعات تعالج واقع حياتهم اليومية المضنية، حيث يتفشى الجهل والبطالة وتتردى الخدمات على مختلف المستويات بشكل خطير، إلى الدرجة التي تصبح فيها هذه الضروريات بضاعة كمالية لمن لا يسكن المنطقة الخضراء، موطن الفيدرالية حيث ولدت ولّما يتم فطامها بعد. الأجندة المتعلقة بالفدرالية قابلة للتفسير والتطبيق بشكل يجعل تفكيك الدولة العراقية إلى كيانات مصطنعة، عملية ديمقراطية تتمتع بغطاء الدستور ومباركته، وبعبارة أخرى يجعل تفكيك العراق أحد الاستحقاقات الدستورية. فالدستور العراقي الجديد قد صُمم لجعل المركز (العاصمة) في منتهى الضعف في الداخل والخارج، عن طريق سحب سلطاته وصلاحياته. ومنحها للحكومات التي ستتشكل في الأقاليم التي خصص لها الباب الخامس من الدستور، حيث احتوى هذا الباب في عدد من مواده على إشكاليات قابلة للتأويل على أكثر من وجه، وليست الأزمة السياسية الأخيرة التي عصفت بالتحالفات القائمة حول قضية كركوك إلا إحداها. الفدرالية تعني اتحاداً بين كيانات صغيرة لتكوين كيان أكبر، لتكوين دولة لها حكومة مركزية تقوم نيابة عن هذه المكونات بإدارة الشؤون السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والتربوية وغير ذلك من اختصاصات الدولة. قد يكون هذا الاتحاد اختيارياً (سويسرا) أو قسرياً (روسيا)، وسواء كان الاتحاد هذا أو ذاك فإن الكيانات المنضوية فيه تتمتع عادة بقدر محدود من سلطات الحكم يختلف حجمه من دولة إلى دولة أخرى، كما أن اتحاد هذه الكيانات في دولة فيدرالية قد يكون على أسس عرقية أو دينية أو مناطقية. التوجه نحو الفدرالية في العراق يرجع في الأساس إلى حاجة قانونية واستيعاب دستوري لواقع فرض نفسه منذ عام 1991، حين تمتع الأكراد بوضع سياسي واقتصادي وإداري أقرب إلى وضع الدولة المستقلة، بمباركة وحماية أميركية. إلا أن مشروع الفدرالية الكردي قد أسال لعاب لاعبين آخرين في العملية السياسية، أصبحوا كباراً في ظل الأوضاع الاستثنائية التي يمر بها العراق، حيث وظفت بنجاح الانتماءات العرقية والطائفية، وأكسبت زعماءها مواقع متميزة غير قادرين على إشغالها خارج الأردية العرقية والمذهبية التي يتبرقعون بها. وأصبحوا قادرين من مواقعهم هذه على إبرام صفقات سياسية مع بعضهم البعض، وهي صفقات أقرب في جوهرها إلى الصفقات التجارية. وهؤلاء يحملون أحلاماً كبيرة باتوا يرون تحقيقها أمراً ممكناً، حيث اختلط الحابل بالنابل وتراجع الوطن ومصالحه خطوات كبيرة إلى الوراء، وأصبح جل شعبه غارقا في النقاش حول سفاسف مصطنعة اكتسبت قدسية طوباوية قاصرة عن توفير فرصة عمل لعاطل أو رغيف خبز لجائع. الدعوة إلى إنشاء أقاليم ذات طابع فدرالي في الوسط أو في الجنوب أو في محافظة واحدة من محافظات الجنوب، كما حملت إلينا وسائل الإعلام مؤخراً، تبدو وكأنها دعوة لاجتياز حواجز كبيرة وخطيرة، وقفزة لا تُعرف عقباها على تاريخ الوسط والجنوب الذي يتشابه في كل شيء. فأبناؤه يتكلمون لغة واحدة ويدينون بدين واحد وينتمون إلى عرق واحد، ولا فرق بين لون بشرتهم أو لون أعينهم أو ثقافتهم، وليست هنالك معالم جغرافية مميزة صنعت ثقافة وتاريخاً مختلفاً لدى هؤلاء أو هؤلاء، وليس بينهم خلاف حول عائدية أرض أو مدينة أو ما شابه ذلك. فما الذي يكمن وراء دعوات كهذه؟ سؤال سوف لن نتعب أنفسنا بالإجابة عنه، بل سنترك مهمة ذلك لما هو قادم من أحداث في العراق. الفدرالية قد تحوي في ذاتها نزعة انفصالية مدمرة للبلد، خاصة في حالة غياب تقاليد ديمقراطية تغلغلت في البنية الثقافية للمجتمع على أمد طويل وصنعت من أفراده بناة حقيقيين واعين لخطورة ما يدلون به من آراء، مع الفدرالية أو ضدها، وليسوا مجرد إمعات جردتهم قياداتهم العرقية والمذهبية من إرادة التفكير والتدبير. [c1]*عن / جريدة «البيان» الإماراتية[/c]