عدسة وقلم / فضل علي مباركلا يعرف على وجه التحديد متى بدأت أول زيارة لموقع قبر النبي هود عليه السلام بمحافظة حضرموت التي يرى اليوم فيها كثير من العلويين الهاشميين بأنها اشتراط ابتدعوا له الطقوس الخاصة والتي أخذوا يتوارثونها ويحافظون على الاقتداء والعمل بها وفق شروطها وضوابطها دون السماح بالخروج عنها سوى ما يلحقها من إضافات سنوية متجددة يستوجبها العصر مثل إقامة المحاضرات والندوات .وتشير كثير من كتب التاريخ التي أكدت على وجود قبر النبي هود بهذه المنطقة التي عاش فيها مع قومه قبل أن يدعو الله عليهم فيصيبهم بعذاب من عنده ، قال تعالى : “ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم “ ، وقال تعالى : “ فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ، تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين “ ، إلا أن زيارة الموقع كانت منذ ما قبل الميلاد ، دون الإفصاح عن مكنونات ودواع هذه الزيارة سوى ما يرتبط بها من جوانب روحانية وتبرك ربما يكون اليوم قد فقد جوهره وبريقه في كثير من الجوانب حينما ينصرف كثير من الزوار الذين تجشموا عناء الرحلة والقناعة بميسور العيش في هذه المنطقة وترك ما تعودوا عليه طوال أيام السنة حيث تلحظ أن كثيراً من الناس حتى من العلويين أنفسهم غير أتباعهم عادةً لا يعيرون الطقوس المعتادة اهتماماً ولا يحرصون على المشاركة فيها كما أنهم يتغيبون عن المحاضرات الدينية وحلقات الذكر التي تقام طوال ساعات اليومين ، وتجد حرص هؤلاء يزداد في عقد جلسات السمر وتناول القات ومتابعة مظاهر الرقص سواء بالفرجة أو المشاركة فيها والتسوق .وأتذكر عندما تناقشت مع عدد من القائمين على الزيارة بأن مضمون وأهداف الزيارة لدى الكثيرين قد انحرفت إلى مجالات أخرى بانصرافها بعيداً عن الأجواء الروحانية والتعبد والتضرع إلى الله كما هو الغرض من وصولهم إلى هذا المكان ، بالميل إلى أمور أخرى ، رد
يؤدون صلاة الركعتين
هؤلاء بالعتب على من يأتي لغير ذلك وقالوا لماذا إذاً يتجشم هؤلاء عناء السفر إلى هنا إن كانت لهم مقاصد أخرى وينظر هؤلاء إلى الزيارة بحسب ما سمعت منهم على أساس فرصة لتغيير الجو والنزهة والتنفس ، ولا يعدمون أن يشاركوا في بعض من جوانب الطقوس ، حيث وأن ساعات اليومين قد قسمت بين خمس أسر تعد رئيسية من العلويين في حضرموت توارثت ذلك وهي آل بلفقيه ، الحامد ، الحداد ، بن شهاب ، آل الشيخ أبو بكر ، إضافة إلى قبيلة المناهيل وهي القبيلة الوحيدة من بين قبائل حضرموت التي يسمح لها بإقامة طقوسها والمشاركة والذي استطاعت القبيلة أن تحققه منذ القدم بإرعام تلك البيوت العلوية إلى توقيع حلف معها بحكم معيشتها في جوار منطقة شعب هود . في يوم 10 شعبان أول يومي الزيارة يبدأ آل بلفقيه وأتباعهم طقوسهم إيذاناً ببدء الزيارة تليها ضحىً أسرة آل الحداد ، وفي عصر نفس اليوم تبدأ أسرة آل الحامد .ويبدأ اليوم الثاني صباحاً آل شهاب وفي الضحى يكون الدور مخصص لآل الشيخ أبو بكر ، وفي العصر تبدأ قبيلة المناهيل طقوسها .أما مساءات اليومين خصوصاً وقت ما بين صلاتي المغرب والعشاء فإن اليوم الأول يخصص لآل بلفقيه بإقامة ( مولد نبوي ) يلقي خلاله منصب الأسرة كلمة يستعرض خلالها كثير من أمور الدين والدنيا ويجري خلال المولد ترديد الأدعية والابتهالات وقراءة بعض من سور القران الكريم .أما مساء اليوم الثاني فقد خصص لأسرة الشيخ أبو بكر لتقيم مولداً آخر لا يختلف في جوهره عن الأول سوى في بعض التفاصيل .أما وقت ما بعد العشاء فإن الجمع ينقسم إلى قسمين يتوزعان على المسجد والقبة – ضريح النبي هود – ويتناوب عدد من الدعاة وشيوخ العلم أمثال أبو بكر العدني ، عمر بن حفيظ ، زين العابدين الجفري ، سالم الشاطري على إلقاء المواعظ والمحاضرات .
امام بئر التسلوم
وفيما توجد هناك أسر أخرى من العلويين في حضرموت لا يسمح لها بإقامة طقوس مثل الخمس الأسر الأخرى وإن كان عديد من أبنائها يحرصون على الزيارة لكن كزوار مشاركين مع إحدى الأسر الخمس دون هذه الأسر التي لم يخصص لها وقت في برنامج الزيارة .يقول إبراهيم بن علوي بلفقيه : أعطيت زيارة الفتح لآل بلفقيه لأن جدهم المغفور له بإذن الله عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بلفقيه كان من بنى القبة قبل نحو ثلاثة قرون ونصف من الزمان , حيث كان قبر النبي هود عليه السلام مجهول التحديد في ( الشعب ) رغم قيام الزيارة للموقع كل عام .ويضيف إبراهيم : بحسب ما تناقله الأجداد والآباء أن رؤيا جاءت جده – عبد الرحمن – في المنام تمثل خلالها شخص السيد عبد الرحمن بن الشيخ علي أبو بكر السكران الذي كان قد انتقل إلى جوار ربه قبل سنوات عديدة وكان رجلاً تقياً ورعاً ذا مكانة علمية في زمانه ، وحدد له موقع قبر النبي هود عليه السلام ، والتي بموجب الرؤيا تم تحديد معالم المكان وبناء قبة وضريح له .ومن يومها كانت عملية افتتاح الزيارة لأسرة بلفقيه والتي تبدأ في اليوم العاشر من شهر شعبان .ويؤكد إبراهيم بلفقيه ( كان تخوف الزوار الأقدمين للقبر ، يمنعهم عدم تحديد معالمه ومعرفة مكانه بدقة ، من الطبخ في القرية وإشعال النار في أي موقع منها ، إذ كانوا يقومون بطهي الطعام بقرية ( ديار السادة ) التي تبعد نحو 4 كم عن الموقع خوفاً من أن تولع النار فوق قبر النبي هود عليه السلام ، وبعد وضع معالم القبر جرت العادة بأن يتم الطبخ وإشعال النار في القرية .ويرى عديد من أبناء تلك الأسر أنه لا يمكن التخلي بأي حال من الأحوال عن ذلك الترتيب والاستحقاق في إقامة طقوس الزيارة لأنه يترتب على ذلك – كما يقولون – ( بدعة جديدة ) سوف تكون مرفوضة من الجميع ، والاستحداث في أي شيء أو تغيير أو إضافة أسر جديدة متفق على عدم الرضى به من قبل جميع القائمين على أمر الزيارة .وبحسب إبراهيم بن علوي فإن ما يمشون عليه منذ نحو أربعة قرون يعد دستوراً وفق ما جرت العادة عليه في ترتيباتها بصورتها اليوم .وعندما سألناه عن الفوائد المجتناة من هذه الزيارة قال : إن الفوائد التي يجنيها الزائر لهذا الموقع في أبسط صورها هي : الالتقاء بالأهل والأقارب الذين قد لا يلتقون طوال العام إلا في مثل هذه الزيارة ، وهذا يعمق صلة الرحم .الذكر وتفقيه الناس في أمور دينهم ودنياهم .أخذ العظة والعبرة وتذكر الموت وعاقبة الضالين . وفيما يرى أنه يؤخذ على الزيارة من المآخذ ، قال إبراهيم إن هناك بعضاً من الناس يرى بأن زيارة القبور بدعة ، ويرون فيما يتم خلال الزيارة أنه تشبيه بالحج ، لكن نقول إن هذا فهم مغلوط وتفسير خاطئ يراد من خلاله تشويه ما يجري وقلب جوهر الحقائق لأهداف لم تعد مخفية ، مؤكداً أن البعض من معارضي الزيارة يأتون أيضاً رغم موقفهم إلى هنا إذ يأخذون الأمر كمتنفس أو سياحة .وخلال جولة عكاظ في موقع الزيارة أكد عدد من شهود العيان الذين يحرصون على القيام بالزيارة منذ سنوات أنه في العام 1994 م عندما أعلنت كثير من الجماعات المتشددة عن تواجدها في اليمن ، فقد قامت إحداها بالوصول إلى قرية ( شعب هود) وحاولت منع الناس من الزيارة وقامت بتخريب كثير من الأشياء في القرية منها رمي مولد الكهرباء من على قمة الجبل وتدميره والعبث بالمنازل وتم القبض عليهم لاحقاً من قبل قوات الأمن بعد بلاغ من الأهالي وجرت محاكمتهم وقد نوقش الأمر خلال زيارة فخامة رئيس الجمهورية الرئيس علي عبد الله صالح مدينة تريم بعيد تلك الحادثة ، وقال بحسب شهود العيان هؤلاء : “ لنا الشرف أن يكون عندنا نبي من أبناء حضرموت ، وأنا اعتبر أن ما يتم من تجمع بشري خلال الزيارة بمثابة مؤتمر قمة إسلامي شعبي مصغر “ ، وقام الرئيس بإكرام أهل المنطقة بمنح الموظفين والطلاب يومي الزيارة إجازة رسمية .
يطوفون حول القبه
[c1]طقوس الزيارة[/c]وتبدأ عادةً طقوس كل زيارة بالاغتسال في مجرى المياه في الوادي المحاذي للموقع الذي يراه كثير من الناس بأنه نهر يمتد مسافة أكثر من 70 كم كما يقولون ، ثم يتم تجمع الزوار في مساحة يقال لها ( حصاة عمر بن المحضار ) تعد كمسجد يؤدي فيه الزوار فرادى ركعتين أشبه بركعتي القدوم يبتهلون بما تيسر من الدعاء ويقرؤون فاتحة الكتاب وسورة يس بنية قبول الزيارة وإصلاح الشأن ونصرة الإسلام والمسلمين ، وعند اكتمال عددهم يتحرك الجمع في صفوف منتظمة وهم يقرؤون الأدعية ويستغفرون ربهم – بعض زيارات الأسر مثل آل الشيخ أبو بكر تصحب رحلتهم هذه قرع الطبول و أصوات البيارق – مرددين ( سبحان الله ، الحمد لله ، لا إله إلا الله ، الله أكبر ) وصولاً إلى بئر مهجورة مردومة يقال لها ( بئر التسلوم ) وسط السوق التجاري للقرية والتي تبعد عن حصاة عمر بنحو الكيلو متر في طريق جبلي متعرج ردمت بعض جوانبه ليسهل المسير عليه للزوار ، وفيما يقوم بعض منهم بالطواف حول البئر الذي بني على حياضها جدار وسقف على شكل قبة بارتفاع 3 متر مفتوحة من جميع الجهات ، فإن الأغلبية يكتفون بالوقوف قبالتها مرددين الأهازيج والأدعية وقراءة ما تيسر من القران ، ويحرص الزوار عند هذا الموقع تحديداً على ترديد قولهم ( السلام عليك يا نبي الله هود ، السلام عليكم يا جميع الأنبياء والمرسلين ) كما يلقون التحية على جميع أمهات المؤمنين وعلى جميع الملائكة المقربين في وقت يستغرق بين الربع إلى النصف ساعة ، بعدها يبدأ التحرك باتجاه آخر مرحلة لمسافة نصف كيلو متر تقريباً تشهد طلوعاً على سفح الجبل حيث يوجد هناك قبر النبي هود عليه السلام والذي بنيت في أحد طرفيه قبة بارتفاع نحو 5 أمتار تقع بمحاذاة صخرة كبيرة بقطر نحو 6 أمتار وارتفاع مشابه يطلق عليها الزوار ( الناقة ) والتي تعني في اللغة الحجر الكبير المائل للسقوط وتحيط بهما مساحة سقفت أجزاء واسعة منها وبقيتها لا زال مفتوحاً مع تجهيز أرضيتها بالبلاط . وقبل الوصول إلى هناك يمر ركب الزوار بمسجد بني حديثاً يسمى مسجد ( يا عباد ) والذي بناه الإمام عبد القديم با عباد قبل نحو 150 عاماحيث يقوم الزوار عند الوصول إليه بإلقاء التحية والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين ،مع قراءة سورة هود وفاتحة الكتاب على روح أرباب الزيارة وجميع المسلمين ، في زمن يمتد لنصف ساعة أخرى ، بعدها يتم المسير باتجاه القبة مع ترديد الأهازيج والأناشيد الدينية ، وصولاً إلى موقع القبة حيث يجلسون هناك تحت الناقة والتي يعتقدون إن نبي الله هود عليه السلام كان يجلس تحتها لعبادة ربه ودعوة قومه إلى توحيد الله لإقامة ( الحضرة ) وترديد الموشحات الدينية ويقوم أحد الدعاة الحاضرين بإلقاء محاضرة دينية تتناول أهمية الزيارة والفوائد المرتجاة منها مع العروج على أوضاع المسلمين وما يعانونه وتطلعاتهم .
في الطريق الى القبه
وتقام ما بين صلاتي المغرب والعشاء محاضرات وندوات دينية بالتناوب بين الأسر الخمس المصرح لها من قبل العديد من الدعاة الذين يأتون خصيصاً للزيارة .وعلى الرغم من تباين المؤرخين والأخباريين حول موقع قبر النبي هود عليه السلام ومتى بدأت أول زيارة له في عصر ما قبل الميلاد ومن بدأها ، إلا أن اتفاقهم يكاد يقوم على أن الأساس لم يكن قبر النبي هود وزيارته بقدر ما كان الأصل إقامة سوق تجاري ، وحيث أن الأسواق كانت عند العرب تعد من الأماكن المقدسة ، ومن منطلق هذا التقديس يجتمع فيها الناس للبيع والشراء وعقد الصفقات .وللعرب أسواق يتجمعون بها في تجارتهم ويجتمع فيها سائر الناس ويأمنون فيها على أموالهم ودمائهم ، وقد ذكر بعض الأخباريين إن أسواق العرب في الجاهلية ثلاثه عشر سوقاً أولها قياماً ( دومة الجندل ) ، وحظ اليمن من هذه الأسواق حظ كبير فهي سوق هود ، سوق الرابية ، سوق عدن ، وسوق صنعاء .ويظهر من روايات أهل الأخبار إن حظ المفاخرة والمباهاة والتمدح والذم لم يكن بأقل من حظ لبيع والشراء ، ويظهر من روايات أهل الأخبار عن هذه الأسواق أنها كلها في الأصل مواضع مقدسة لها أصناه تعبدها القبائل وتأتي للتقرب منها في مواسم معينة هي مواسم حجها ، فتحولت تلك المواسم إلى أسواق للبيع والشراء. وقد غلب على هذا التجمع بسوق هود في عصر ما قبل الإسلام الطابع التجاري ، ثم تحولت تلك الإضاءة التجارية التي تميز بها السوق في فترة ما إلى زيارة وطقوس دينية ، ربما تعود – بحسب بعض المؤرخين – إلى حالة الضعف والإقبال التي أخذت تظهر على كثير من أسواق العرب جراء النزاعات أولاً ومن ثم ظهور الإسلام الذي جاء بحياة جديدة .ومع ما يشهده الموقع من تلازم في الهدف بين الزيارة والسوق ، على أن دوافع أقوى كانت تشد الناس – في الأزمنة الأخيرة – إلى الزيارة أكثر منها إلى السوق مدفوعة بقوة دفع من أعلام من سادات ومشائخ يحملون لواء الدعوة للدين ويدعون إلى هذه الزيارة وإنها لا تخالف الدين ويصبغون عليها صبغة دينية وأنها للتوسل وليس للتقديس ، والتوسل لدى الجمهور مشروع وليس محظوراً سواء أكان بالأحياء أو الأموات على ما يقول البعض ، وزيارة القبور عند الجمهور مرغوب فيها ، وقد حدد العلماء نوعية الزيارة وأنها للسلام وطلب المغفرة والترحم على الميت .وإن كان ما يحدث للمشاهد / الزائر في هذه الزيارة من بعض العوام يوحي في ظل سكوت أصحاب الرأي بأن هؤلاء العوام يذهبون في طقوسهم وعاداتهم إلى أبعد من التوسل وأخذ العبرة من زيارة القبور .وقد أوردت كثير من كتب التاريخ طرق وطقوس الزيارة وكيف جرى عليها التحول والتبدل من الزيارة الشرعية والتي هي على طريقة الفقهاء إلى أن استقرت على ما هي عليه اليوم وفق الطريقة الصوفية ، طريقة المدد والتبرك بالمزار في نحو الربع الأول من القرن التاسع الهجري .ولما كان حال الطقوس متبدلاً كذلك الحال بالنسبة لوقت الزيارة .. فقد تدرجت من موسم الخريف إلى وقت فراغ الناس من أشغال التمر وتعبئته إلى الوقت الحاضر الذي أصبح فيه وقت الزيارة محدداً بيومي التاسع والعاشر من شعبان .