في السمان والخريف يتكلم الروائي العربي (نجيب محفوظ) عن ضحالة التربية العلمية، باعتبار أنّ الإنسان لا يتطرق في نظرية علمية إلا إذا ثبتت خطأها، إذن لماذا نضع اللوم على سين أو عين من الناس ما دمنا بحاجةٍ إلى تربية عقلية؟في هذه الرواية يعطيك الكاتب مبادئ ونماذج بشرية استطاعت أن تتقمص هذه المبادئ، فماذا ينفع إذا كنت حفظت هذه المبادئ ورددتها كشعارات عن ظهر قلب ولم تطبقها؟ماذا كتب ( نجيب محفوظ) في "السمان والخريف) عن مصر المهددة بالافتراس ، أما أن تستسلم نهائياً للاحتلا ل أو تقسم أو تفترس من قبل الملك ورجال حاشيته الفاسدين.وماذا قال عن بطل روايته (عيسى الدباغ) المناضل المحمل بالهروب والخوف والمتهم بالتواطؤ والرشوة ورغم حبه لمصر وتعبيره عن مدى حبه لها رأينا كيف أسهم في التخريب من داخلها.بالطبع لن تكون (السمان والخريف) مختلفة عن بقية رواياته أي لا يمكن أن تكون مجردة من كل الهموم والمآسي أو خارج اللحظات التاريخية الحاسمة التي شهدت فيها مصر انشقاق بعض أبنائها عن صفوف الجماهير كما شهدت تآكل الأحزاب والتنظيمات وشطارة الموظفين الفاسدين والاستعانة بالغرب وهكذا.كان الدباغ والذي قام ببطولة دوره الفنان المعروف (محمود مرسي) على النقيض من ابن عمه (حسن) الفنان (عبد الله غيث) رفيق صباه الباكر وشبابه الغض، ومع هذا كان (عيسى) يشعر بعدم اتفاقه مع ابن عمه حسن خصوصاً بعد ما توظف (عيسى) وأصبح من أهم رجال الحزب في حكومة صاحب الجلالة (فاروق).كان (عيسى) من وجهة نظر (حسن) ذلك الشاب المتكبر العنيد، أما حسن فقد كان من وجهة نظر عيسى ذلك الشاب المتقعر بالمبادئ والخائب أيضاً الذي يسعى خلف الشعارات البراقة ويحلم بالزواج من ابنة أحد الإقطاعيين خّدام السرايا.فهل كان (عيسى) في الحقيقة كما يراه (حسن)، وهل كان حسن في الحقيقة يختلف عما وصفه به عيسى وما أصل الخلاف بينهما؟إنّها الأزمة في شكل العَلاقة التي ظهرت منذ بداية الفيلم، فعيسى لا يظهر إلا في حالتين، أما أثناء مجالسته لأصحاب المنافع من الذين باعوا الدين والدنيا، وأما وهو يبرر تصرفات الباشا وزير الداخلية ورئيس حزبه، مرة يبرر ممارساته وتواظئه ضد مصر ومع الشيطان، المهم أن يرضى عنه، والأخرى وهو ينفذ أوامره التي تساوي قبوله أو رضوخه، وفي كلتا الأمرين، لا وجود (لعيسى الدباغ) ابن البلد الملغي تماماً.هذا هو المأزق الذي يعيشه (عيسى) بعد طرده من الوظيفة في حركة التطهير التي شهدتها (مصر) في عهد (عبد الناصر) بعد قيام الثورة، وهو مأزق يتعمق أكثر كلما اصطدم (عيسى) بضميره وكلما وجعته وخزات ذلك الضمير القائم على اللعب في السياسة والبراعة في الكذب والتضليل واستغلال السلطات من أجل مكاسب شخصية رخيصة (نقود وهدايا وأثاث فاخرة).ولذات السبب يقع عيسى في الشرك أكثر من مرة، في الأولى عندما أراد تعويض كبوته بركلة أخرى في مؤخرته من الجري خلف الباشوات والإقصطاعيين الكبار وخصوصاً عندما قرر الزواج من (سلوى) بنت الباشا اللعوب (صائدة الرجال) ذوي المناصب والجاه، في السابق كانتت خطيبة (لحسن) ابن عم ( عيسى) ثمّ أصبحت (خطيبة) من جديد (لعيسى) الوجيه الذي أراد أن يرد الصاع صاعين لابن عمه من دون سبب سوى الحقد والضغينة.ومع أنّ تاريخ (الذباغ) السياسي ودخوله للمعتقل لن يشفع له سوء تصرفاته فقد وقع ضحية (المحاسبة) وهذه (الثانية) باعتباره فاسداً ومرتشياً ونتيجة لذلك اختفى من الحياة السياسية والاجتماعية ظاهرياً ولفترة طويلة قضاها في شرب الخمر ولعب القمار والتردد على البارات والتسكع مع بنات الليل.وخلال مشيه البطال اكتشف تولي حسن ابن عمه لمنصب قيادي مهم في الدولة، وهذا المنصب ضمن له حق الفوز بحبيبته (سلوى) التي حاول عيسى أخذها بالقوة من أجل حرمان حسن منها، في البداية طاوعته لشيء في نفسها ولكنها عندما اكتشفت زوال مصالحها معه فسخت خطبتها مباشرة.ولم يكن في الساحة أمام عيسى إلا الضياع من جديد والهروب إلى أحضان الغانية (ريري) من بنات الليل والتي تقوم بدورها الفنانة (نادية لطفي) والتي اكتشف أيضاً من خلال عَلاقته بها قسوته الشديدة على نفسه وولعه بتعذيبها وبعدما كان يحلم بالحياة الأسرية الكريمة أصبح يضم بين أحضانه غانية وهذه الظروف تناقضت مع تاريخه العريق فربط الأسباب بالمسببات وتعددت أساليب لعناته وأنتهت بضرب وطرد (ريريد) من حياته إلى الأبد، ولكن مما يؤسف له في النهاية أنها كانت حاملاً بطفلة وأنّه حاول تقديم الاعتذار لها بسبب ما نالها من قسوة وتجريح ولكنها ترفض وتدافع عن كرامتها بإستماتة تجبره على الخروج من حياتها، هي والصغيرة إلى الأبد لأنّه لا يستحقهما.من هنا أيضاً بدأت رحلة الضجر والضياع لعيسى إضافة إلى وفاة أمه ثم زواجه من العانس العاقر ابنة الأكابر والذي كان في جوهره على ما يبدو زواجاً شكلياً دون أن يؤثر أو يجدد من مضمونه شيئاً عند (عيسى).ولكن بعد إعلان تأميم (قناة السويس) ينظم عيسى الذباع إلى فريق تدريب المتطوعين من الشباب الوطني المصري للدفاع عن مصر، وبكل ما تحمله المبادئ من قوة حاول عيسى وغيره من الوطنيين تصحيح الأخطاء السياسية التي اثبتت الوقائع زيفها، ومن هنا أيضاً أخذ الناس يلتفون حول (عبد الناصر) وبما أنّ الالتفاف الجماهيري حول ناصر والقناة والمجهود الحربي كبير وشكل هزيمة للإقطاع وبقايا ذيول الحاشية والفاسدين الذين خاضوا تلك الحرب وأرادوا لها الانتصار لصالح الاحتلال نكاية بالثورة.ولآول مرة يلتقي (عيسى بحسن) في ساحة التدريب بقناعةٍ مطلقةٍ بأنّ مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وكان صوت الفنان (عادل أدهم) رفيق السلاح النماضل القريب من (الذباغ) في الظروف الصعبة هو تجسيد لما يجري في مصر في تلك المرحلة من محبة وتسامح رغم اختلاف وجهة النظر وأنّ الهم الرئيسي الذي يحكم الجميع هو (مصر) وهي الأقدر على احتوائهم.وربما حالة القلق والخلخلة بإشاعة اليأس والإحباط والانحلال هو الذي دفع (بعيسى الذباغ) للتعامل مع (ريري) بتلك الطريقة وللزواج أيضاً بتلك الطريقة، ولخطف خطيبة ابن عمه بتلك الطريقة أيضاً ان لم تكن هذه الحالة أيضاً هي وراء إثارة التشكيك بالحركة الوطنية والثورية وإشعال فتيل الصراع والشقاق داخلها وخارجها بهدف زعزعة الكيان القائم للثورة.ومن البديهيات التي يعرفها الميع هو أهداف الدول الطامعة بمصر والتي كرسها الاحتلال البريطاني باعتبار مص هي (الريف كله) والريف يعني محصول القطن والخيرات الكثيرة.وكان أول ما قام به الاحتلال لتحقيق هذه الإستراتيجية هو تغيير نظام الملكية لخلق طبقة موالية من الملاك لتسليمها الثروة والسلطة لتزرع القطن وتحرس الحكم.وحينما أشار المندوب السامي البريطاني على حكومته بمنح بعض التنازلات، لم ينسَ أن يطمئنها بأنّه (حتى لو غادرنا مصر نهائياً فإننا سوف نترك طبقة شديدة الإخلاص تستمر في حكم مصر لصالحنا).ولم يكن ممكناً تحميل (عيسى الذباغ) وحزبه المسئولية كاملة ولكن يمكن أن يُقال إنّ هذه الطبقة كانت هي العود الذي أشعال صندوق الثقاب فتحولت الشرارة إلى حريق كبير التهم كل شيء بسبب الحقد الذي تضاعف عند الطبقات المخلوعة.. ولأنّ الثورة كانت متسامحة مع الجميع لم تقف موقف العداء مع أحد بل كانت عوناً من أجل التصحيح وأصبحت مهمتها بدرجة رئيسة فتح باب الصفح لأصحاب الأخطاء من الوطنيين أمثال (عيسى الذباغ) الذي سرعان ما انخرط في صفوف الدفاع عن منجزات ثورة يوليو ولصالح مصر.كما أنّ مرحلة المصالحة هذه مع ذاته فرضت عليه تصحيح أخطاء كثيرة ارتكبها في حياته وبحق نفسه وفي مقدمتها طلاق العانس بنت الأكابر، والبحث عن حبيبته (ريري) التي غادرت حياته وهي تحمل ثمرة الخطأ في أحشائها ومن دون أن تتفوه بكلمة واحدة تجرحه أو تمس مشاعره.إضافة إلى مصالحته مع ابن عمه (حسن) ثم رأينا كيف بدأ البحث عن (ريري) بتجرد من أنانيته السابقة وكيف رفض التآمر مع رئيس حزبه ولبعض أعضاء هذا الحزب الإقطاعي المتآمر على مصر، أنا لم أندهش من سرعة تغيير مواقف (عيسى) فهو لا يزيد عن أي إنسان من هذا الشعب يحب مصر. قد يبدو الأمر على السطح غير ذلك في البداية ولكن سرعان ما رأينا استعداده بالتضحية بنفسه من أجل وطنه، لأنّه مضطر أن يدافع عن مصر في ما أعتقد أنّه حق هذه هي الوطنية الحقة.نحن نقرأ أو قرأنا في أدبنا العربي عن الصفات التي تعني البطولات، وهذه الصفات بمجملها تناشد الفرد أن يكون مسئولاً عن موقفه في ما يقرره وهذا يدل على أنّه عند الجد تتوضح المواقف ويصبح قرار الإنسان واضحاً.وهذا يعني أنّه أصبح أمام أمر واقع هناك ما يمليه العقل لا ما يمليه الانفعال تكاملت الفكرة ونضجت دون أن يقع عيسى من جديد في التطرفات.وبهذا المضمون الأدبي تعطيك الرواية مبادئ ونماذج بشرية استطاعت أن تتقمص هذه المبادئ.الفيلم قصة نجيب محفوظوسيناريو أحمد عباس صالحوإخراج حسام الدين مصطفى
|
ثقافة
فيلم السمان و الخريف
أخبار متعلقة