نبض القلم
من القضايا البارزة الناجمة عن الفتنة في التاريخ الإسلامي قضية خلق القرآن التي أثارت فتنة كبرى في العصر العباسي, حيث عذب فيها كثير من الناس, وقتل بسببها عدد من العلماء الأفاضل, منهم:1 - الإمام الصالح محمد بن نوح, وكان شيخاً هرماً ضعيف البنية, أرسلوه إلى المأمون في طرطوس موثقاً بالحديد في يديه وقدميه, ومنعوا عنه الشراب والطعام, فمات في الطريق منهوكاً ظامئاً.2 - الفقيه الحجة أبو يعقوب البوطي, صاحب الشافعي, بعثوا به من مصر إلى بغداد مكبلاً بالحديد, فكان يقول: والله لأموتن في حديدي هذا دون الحق الذي أومن به, حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الأمر قوم في حديدهم, وقد صرَّح برأيه شجاعاً في وجه الخليفة الواثق, فأغلظ في تعذيبه والتشهير به, حيث أمر بأن يركبوه بغلاً وفي عنقه غل, وفي رجليه قيد, وبين القيد والبغل سلسلة فولاذية فيها ثقل من الحديد زنته أربعون رطلاً, ثم طافوا به وألقوه بعد ذلك في السجن فمات فيه.3 - الإمام الورع نعيم بن حماد, جيء به من مصر كذلك مكبلاً بالحديد, فجادلهم وامتنع عن القول بمقالتهم, فعذبوه ومات في سجنه.4 - الفقيه أحمد بن نصر الخزاعي, تلميذ الإمام مالك بن أنس, وأستاذ يحيى بن معين, أعلن رأيه في المقالة مخاصماً القائلين بها, واحتشد حوله الناس, فاستمعوا له وتابعوه, فقبض عليه وعذب, وكان سنه قد تجاوز التسعين, ولكنه أصر على رأيه وموقفه فقتله الخليفة الواثق, وأمر بحمل رأسه, فنصبت على جذع مائل بالجانب الشرقي في بغداد, وقيل إنها ظلت سنوات إلى أن جاء المتوكل فأمر بإزالتها.وهناك كثير من العلماء كانوا ضحية هذه الفتنة, ومنهم من لقي صنوف العذاب والنكال أمثال الإمام أحمد بن حنبل الذي تعرض لأقسى العذاب نتيجة ثباته على موقفه الرافض لمقال خلق القرآن.وحسبنا منه هذا المشهد الذي نقله (الذهبي في تذكرة الحفاظ, 1955, ص115) مروياً عن صالح بن الإمام عن الإمام نفسه قائلاً :«لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم وقال: ائتوني بغيرها, ثم قال للجلادين: تقدموا فجعل يتقدم إلى الرجل منهم ليضربني سوطين فيقول له: شد قطع الله يديك, ثم يتنحى ويقول الآخر فيضربني سوطين, وهو يقول في كل ذلك شد قطع الله يديك, فلما ضربت تسعة عشر سوطاً قام إلي - يعني المعتصم - وقال : يا أحمد, علام تقتل نفسك؟ وإني والله عليك لشفيق, قال: فجعل عجيف - أحد الجلادين - ينخسني بقائمة سيفه, ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك, الخليفة على رأسك قائم, وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين: دمه في عنقي أقتله, وجعلوا يقولون: يا أحمد ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول به, فرجع وجلس, وقال للجلاد: تقدم, وأوجع, قطع الله يديك, ثم قام الثانية, فجعل يقول, ويحك يا أحمد, أجبني فجعلوا يقبلون عليَّ ويقولون: يا أحمد, إمامك على رأسك قائم, وجعل عبدالرحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟ وجعل المعتصم يقول: ويحك أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي, فقلت يا أمير المؤمنين, أعطوني شيئاً من كتاب الله, فيرجع فيقول للجلادين: تقدموا, فجعل الجلاد يتقدم ويضرب سوطين ويتنحى, وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يديك, قال: فذهب عقلي, وأفقت فإذا القيود قد أطلقت عني, فقال لي رجل ممن حضر: إنا كبيناك على وجهك وطرحناك على ظهرك, وسناك فما شعرت بذلك, وآتوا بسويق, فقالوا لي: أشرب وتقيأ, فقلت: لا أفطر, ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم فحضرت الظهر, فتقدم ابن سماعة فصلى, فلما أثقل في الصلاة قال لي: صليت والدم يسيل في ثوبك, فقلت: قد صلى عمر, وجرحه ينضب دماً..» إلى آخر الحديث.إن هذا المشهد في تعذيب شيخ فاضل واهن البدن كالإمام الجليل أحمد بن حنبل, بصور مبلغ ما كان يلقاه العلماء من جراء الفتن وتعصب المتعصبين لبعض المقولات الزائفة, الناجمة عن الأفكار الخاطئة, والنظرة المتعصبة للأمور, التي لا تعطي فرصة للسماحة والمحبة في المجتمع, وإنما تشيع العداوة والبغضاء بين الناس وتعمق الفرقة.ومعروف أن فتنة خلق القرآن كانت قد ظهرت في أول الأمر في عهد الخليفة العباسي المأمون, على يدي رجل من غلاة المعتزلة يدعى أحمد بن داؤد قاضي القضاة في عهد المأمون, والذي كان يحظى بمكانة رفيعة لديه, وذكره (ابن الأثير, في الكامل, 1978, ص206) قائلاً: «إنه كان داعية إلى القول بخلق القرآن وغيرها من المقولات التي أثارت فتنة في المجتمع, وكان قد أخذ ذلك عن بشر المريسي, وأخذه بشر عن الجهم بن صفوان» وهكذا ظل يعدد تسلسل دعاة هذه الفتنة, والتي كان مصدرها لبيد بن الأعصم اليهودي, بما يفيد أن فتنة خلق القرآن كانت نفته يهودية مدبرة لإحداث فتنة في المجتمع الإسلامي, في أوج ازدهار الحضارة الإسلامية, حتى لا تتفرغ الأمة الإسلامية للتنمية, والنهوض الحضاري, وحتى يبقى المجتمع الإسلامي أسيراً للصراعات ورهناً للنزاعات, وهذا هو شأن الأمة التي ترضى بزرع الفتنة في وسطها, وتتعاون مع مروجيها, إلى أن يستفحل خطرها, ويزداد روَّادها وتتفاقم أخطارها, وربما يكون من ضحاياها خيرة العلماء والمفكرين, وقد قيل في الأثر: «الفتنة نائمة, لعن الله من أيقظها».وفي حياتنا المعاصرة مازلنا نتذكر ما أحدثته فتنة 13 يناير 1986م في عدن, والتي ذهب بسببها آلاف الضحايا, وقتل من جرائها عشرات المفكرين وخيرة العقول, وتعطلت التنمية, ودمر الاقتصاد الوطني, وحدثت شروخ في بنية المجتمع.ومما يؤسف له إننا لم نتعظ من فتنة 13 يناير ولم نعتبر بنتائجها المأسوية, فمازال هناك من يزرع بذور الفتنة في مجتمعنا, وهناك من يقذفها, وليس هناك من يعمل للحد من تفاقمها واتساع نطاقها, مما ينذر بمخاطر كثيرة تهدد حياتنا ومستقبل بلادنا, وهو ما ينبغي التحذير منه, والتنبيه لمخاطره.[c1]إمام وخطيب جامع الهاشمي - الشيخ عثمان[/c]