قصة قصيرة
محمد عزوز:تسلل إلى المكتب عبر منفذ ملتو في النافذة ، ظناً منه أنه سينعم بدفء في الداخل ، وربما بطعام ألذ لايعرف كنهه ، ولكنه سيكون ألذ من بعض حبات العنب التي جف ماؤها في أوائل الخريف .أصاخ السمع قبل أن يلج بجسده عبر ذاك المنفذ ، لم يسمع جلبة ما تعيقه ، فقرر أن يغامر ..تردد قليلاً ، تذكر رفيقه الذي تسلل إلى الداخل منذ ساعات ولم يعد ، أكله الحسد ، كيف يتركه ينعم بالحلاوة والدفء وربما بأشياء أخرى لايعرفها ...؟ صمم على العبور أخيراً ، وتم له ذلك .أضواء ناصعة البياض تنشرها عيدان ملساء مثبتة في سقف ذلك المكان ، أغرته بالاقتراب ، وأخافه ذلك الرجل الأصلع الذي يجلس وبجواره أشياء لايعرفها ، حاول أن يكتشفها ، لكن الرجل لم يسمح له بذلك ، إذ سرعان مارآه يحمل بيده عصا مشذبة طويلة، وبدأ يطارده بها ...وجد الأمان في السقف ، حاول أن يختبئ بين عيدان الأضواء البيضاء التي كانت تنشر الضوء والدفء ، لكنه بدأ يتوجس من حرارة كانت تصله منها .لمح رفيقه معلقاً بينها ، حاول الاقتراب منه ، خفق قلبه بسرعة:ـ إنه لايتحرك .. يبدو محصوراً بين تلك العيدان ..اقترب منه أكثر ، خمن أنه ساكن لأنه يتلذذ بطعام ما لايزال يجهله ...تساءل من جديد :ـ ألم ينتبه لقدومي ..؟ لماذا لاأسمع له أي صوت ..؟ حاول لمس بعض أجزاء من جسده ، وصعقته المفاجأة .. لقد كان جسداً بارداً دون أي حراك .خاف وبدأ يحوم حوله ، دون أن يجرؤ على الاقتراب ثانية .العصا لاتزال في يد الرجل ، تطارده من الأسفل ، وهو يحوم حول عيدان الإنارة ، دون أن يقترب منها . وقف على جدار مقابل يراقب مايحدث .الرجل على مايبدو يحاول الوصول إليه ، يضع طاولة صغيرة ، يصعد إليها ، وقبل أن يرفع عصاه ، عاود ( الدبور ) التحليق قريباً من السقف .فكر في الانتقام .. لماذا لايهاجم الرجل في وجهه ..؟ ولكنه يرى رجالاً آخرين يدخلون ويخرجون من المكتب ، وهذا قد يعرضه للصفع المميت أو الهرس بالأقدام .فتش عن زوايا أخرى أكثر أماناً ، صورة معلقة في الأعالي ، فوق رأس الرجل الأصلع تماماً ، وقف على طرف إطارها مستطلعاً ، هدأت دقات قلبه رويداً رويداً عندما رأى الرجل يعود إلى كرسيه تاركاً عصاه تستقر على طرف طاولته دون حراك .اطمأن ، وعاد يتطلع حوله ، يفتش عن سبيل للخلاص .لم تكن هذه جنته الموعودة كما ظن في البداية ، ولم يعد يذكر تماماً مكان الثغرة التي تسلل منها ، تريث ، طار إلى إحدى الزوايا مفتشاً عن مخرج ، فعاد الأصلع إلى عصاه محاولاً الوصول إليه من جديد ، قفز إلى إطار الصورة ، فهدأ الرجل وعصاه مجدداً .دفعه فضوله لمعرفة سر ذاك الهدوء الذي يفرضه وقوفه على هذا الإطار ، فطار إلى الجهة المقابلة ، التصق بالسقف ، سمح له المكان بقراءة سر اللوحة الأمان .كان الإطار يحوي صورة لرجل عابس تبدو عليه إمارات النعمة، حاول أن يبحث فيها عن مكامن للخوف لايعرفها دون جدوى ، ولم يتباطأ في العودة قبل أن تمتد إليه الأيادي .بعد قليل دخل رجال آخرون ، رآهم ينظرون إليه ، يصابون بالذعر في البداية ، وعندما يتأكدون من معقله المختار ، ينظرون بحسرة إلى عصا ممددة على الطاولة ، دون أن يجرؤوا على مد أيديهم إليها .جرب أن يطير في حضرتهم تاركاً هذا المعقل ، فتزاحمت الأيدي تبغي العصا أو أدوات أخرى كان يراها وقد بدأت تتزاحم هي الأخرى في الوصول إليه .يقهقه على طريقته ، ثم يعود إلى الإطار ، فيخمد ضجيج أولئك الرجال ويتركونه وشأنه .أعجبته اللعبة ، وعاب على أولئك الرجال الذين أخمدتهم هذه اللوحة ـ الإطار .وعندما أطفؤوا الأنوار وغادروا المكتب ، حزن لأنه لن يستطيع إتمام اللعبة ـ متعته الوحيدة الجديدة ، بعد أن أضاع طريقه إلى الخارج حيث كان ينعم بالحلاوة والهواء والحرية ...* من مجموعة ( حروف الدمع ) الصادرة دمشق.