أضواء
يحتفل العالم بأعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، وتمتد مظاهر الزينة والأجواء الاحتفالية إلى مختلف أرجاء المعمورة، وتغمر معظم شعوب دول العالم مشاعر البهجة والفرح، وهي تودع عاماً مثقلاً بأحداثه السلبية والإيجابية قد أوشك على الرحيل، لتستقبل عاماً جديداً ملؤه السلام والمحبة وآمال عريضة في تحقيق أهدافها في تنمية مجتمعاتها.ويبقى العالم الإسلامي استثناءً في مجرى حياة العالم، ويظل عصياً على حركة التطور والتقدم، فلا يكاد يستطيع الانسجام مع إيقاع العصر، ويعيش حالة من التوتر مع الذات والتوجس من الآخر المتفوق الذي يحمله مسؤولية تردي أوضاعه ومواجعه، ولا يهتدي طريقاً لحسم خيار واضح لتجسير الهوة التي تفصل بينه وبين عالم المتقدمين، وبين ماضيه الذي مازال يتغنى ويفتخر به، وواقعه الذي يعاني ويشكو منه ويلوم الآخر ويحمله وزره.لايزال العالم الإسلامي وبعد سلسلة طويلة من الصراعات الدامية، التي أذهبت الآلاف من أبنائه على امتداد 3 عقود، غارقاً في بحر من الشعارات والأوهام والهواجس، شعوب العالم في هذه الأيام تستقبل عاماً جديداً بمزيد من الفرح والسرور والآمال والتمنيات الطيبة بينما شعوب العالم الإسلامي تودع العام الذي آذن بالرحيل بمشاعر الأسى والحزن والفجيعة على ضحايا سقطوا، وأودت بهم عمليات القتل والتفجير المتنامية في العديد من مناطق العالم الإسلامي، خصوصا في فترة أعياد الميلاد للمسيحيين، والتي تزامنت مع مناسبة عاشوراء التي تعد من أهم المناسبات الدينية لدى إخواننا الشيعة، حيث يحيون فيها ذكرى مقتل الحسين رضي الله عنه في أجواء يخيم عليها الحزن والبكاء، وترفع فيها الرايات السود.يملأ المرء حزنا وأسى وهو يتأمل مشاهد العنف ومسلسل العمليات التفجيرية والانتحارية المستشرية عبر الساحة الإسلامية: العراق، الصومال، اليمن، باكستان، أفغانستان ويسقط ضحايا أبرياء لا ذنب لهم، ولا تبرير لهذا العنف الوحشي إلا مزاعم يرددها البعض حول أن الإرهاب رد فعل على المظالم، ويتساءل كل صاحب ضمير حي: هل من سبيل لوقف نهر الدماء؟ وهل من نهاية لهذا العنف الدموي المجنون؟ الهجمات الإرهابية التي طالت العراق حرمت المسيحيين من فرحة عيد الميلاد فقرروا- أو من بقي منهم بعد سلسلة العمليات التي استهدفتهم واضطرتهم للهجرة- عدم الاحتفال بأعيادهم والاكتفاء ببعض الطقوس البسيطة في منازلهم، خصوصا بعد تفجيرات استهدفت كنائس لهم.ومن ناحية أخرى فضل المسيحيون مراعاة مراسم عاشوراء التي تزامنت ومواسم أعيادهم، وأي عيد يحتفل به وسط أجواء القتل والتهديد والتهجير والتفجير؟! تقول إحداهن باكية إذ تتذكر إخوتها الذين غادروا العراق هرباً من الإرهاب: أشتاق لرؤيتهم، لقد رحلوا إلى حيث الأمان في أستراليا وأميركا، كيف نعلن أفراحنا وهناك الآلاف من القتلى واليتامى في العراق؟! ورغم تشديد إجراءات الأمن فإن الإرهابيين نجحوا في استهداف مساجد كانت تحيي ذكرى عاشوراء في ديالى، وفي باكستان طالت العمليات التفجيرية المساجد والمدارس والأسواق الشعبية وناد للصحافة، وأسفرت عن قتل العشرات من المصلين والأطفال والمدنيين.وفي محاولة للحد من العمليات الانتحارية وبهدف محاصرة طالبان لجأت الحكومة الباكستانية إلى علماء الدين لإصدار فتاوى بتحريم العمليات الانتحارية داخل باكستان- لاحظ داخل باكستان فقط- وأصدر مؤتمر العلماء والمشايخ في إسلام أباد فتوى قالوا فيها: إن الهجوم الانتحاري عمل لا يقره الإسلام وهو محرم كما أدانوا أساليب طالبان بنشر الذعر في المجتمع من خلال قطع حناجر رجال الشرطة والجيش، وأدانوا الهجوم على المساجد والأضرحة وقتل المصلين وعلماء الدين المناهضين لفكر طالبان، وهذه أول مرة يدين فيها العلماء ومعظمهم من السنة طالبان بعد أن كانوا يلتزمون الصمت على ممارساتها العدوانية منذ عام 1992م، وأيد العلماء الحرب التي يقوم بها الجيش ضد طالبان حفاظاً على سيادة باكستان ووحدة أراضيها.لكن التساؤلات المطروحة: هل تجدي هذه الفتاوى في وقف نزيف دماء الباكستانيين؟! وهل تضع حداً لعمليات الانتحار؟! ما فعاليتها في تحصين الشباب الباكستاني ودرء مخاطر الوباء الإرهابي عن عقولهم؟! وهل تستطيع باكستان مواجهة الإرهاب بسلاح الفتاوى؟! في تصوري أن هذه الفتاوى تضعف مصداقيتها عندما يصرح مسؤول العلاقات الخارجية للجماعة الإسلامية الشيخ عبدالغفار عزيز للإعلام مشككاً في مصادر العنف الداخلي ومحملاً جهات خارجية مسؤولية اندلاع العنف في باكستان، ثم إن هذه الفتاوى لا فاعلية حقيقية لها في ظل بنية تحتية راسخة تنتج الفكر العنيف وتبثه عبر شبكاتها الممتدة في جميع أرجاء باكستان، وتهيئ النفسية القابلة للعمل الانتحاري، آلاف المدارس الدينية المنتشرة في باكستان، والتي هي أشبه بمصانع تفريخ تنتج وتغذي هذا الفكر العنيف، وترضع الناشئة منذ نعومة أظفارهم مفاهيم خاطئة ومضللة عن «الجهاد»، وأيضاً «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»!ترى ما تأثير الفتاوى على شباب قد لقنوا منذ الصغر عقيدة «الولاء والبراء» وهي العقيدة التي يقول عنها المفكر الإسلامي المعروف جمال البنا: إنها أضلت أجيالاً عديدة من شباب الجماعات الإسلامية، وقادتهم إما إلى غيابات السجون وإما إلى ظلمات القبور، إن الأرضية التي أنتجت وصنعت هؤلاء الانتحاريين لا تكف عن إنتاجهم كما يقول عبدالمنعم سعيد، إذ إن هناك آلة جهنمية تعمل من أجل غسل العقول والقلوب وتحويلها إلى صناديق مغلقة باسم الدين الإسلامي، ومن ثم لا يمكن أن تجدي الفتاوى في معركة القلوب والعقول ما لم يجر تحول جوهري داخل عقل وقلب الفرد الانتحاري.وإذا كانت الحكومة الباكستانية لها علماؤها الذين أصدروا تلك الفتاوى المحرمة للعمل الانتحاري فلدى ‘طالبان’ أيضاً علماؤها إضافةً إلى المئات من العلماء المتعاطفين معها عبر الساحة الإسلامية، الذين يؤيدون مشروعية العمل الانتحاري في الأعداء- ومفهوم الأعداء هنا يتسع ليشمل كل من يخالف الفكر الطالباني وكل الأنظمة والحكومات التي لا تحكم بما أنزل الله- ثم ما أهمية تلك الفتاوى إزاء آلاف المواقع الإلكترونية التي تمجد العمل الانتحاري وتعده «أسمى أنواع الجهاد»؟! وما جدواها أمام الخطاب الديني التحريضي عبر قنوات فضائية تردد: إذا كان الغرب يمتلك القنابل الذرية فعندنا القنابل البشرية؟! وما مدى فعالية هذه الفتاوى المحرمة للعمل الانتحاري في مواجهة خطاب ديني يستثمر مشاعر الكراهية والعداء للحكومات والأنظمة ويوظفها لخدمة الطرح السياسي للجماعات الدينية المسلحة؟!إذا أرادت باكستان أن تنتصر في مواجهة طالبان وفي تحجيم قوى الإرهاب فلابد أن تتخذ إجراءات جذرية أشبه بعمليات جراحية للمناهج الدينية السائدة في المدارس التي تتولى تنشئة الصغار وتعليمهم، وحشو أدمغتهم الصغيرة بالمعلومات الملغومة، كما يقول تركي الحمد ويضيف: نقول في أمثالنا الشعبية «العلم في الصغر كالنقش في الحجر» ويمكن تحويره ليصبح «الأدلجة في الصغر كالنقش في الحجر» فالعقل يتشكل في الصغر، فما يتشكل في الصغر من الصعب أن يتغير في الكبر، لذلك نجد أن أصحاب الفكر المتطرف لا يسعون ابتداء إلى مناصب عليا في المؤسسة السياسية مثلاً، بقدر سعيهم إلى التحكم بمفاصل العملية التعليمية، خصوصا التعليم الابتدائي، وعندما يتلقى العقل معلومة ملغومة مثل «إن العالم كفرة إلا نحن» أو «إن العالم يتآمر علينا» فإن من الصعب تغييرها لاحقاً، حتى إن تغير الشخص بعد ذلك، إلا أنها تبقى قابعة في لا وعيه كجزء من بنية أساسية لا يمكن نزعها، لأن الكراهية أصبحت جزءاً من مكونات ذاته وثقافته، والذين قاموا بالعمليات الإرهابية من شبابنا هم عقول تشكلت في مؤسسات لقنتهم معلومات ملغومة مليئة بكل ما هو قابل للانفجار.[c1]* عن / صحيفة (الجريدة) الكويتية[/c]