نجمي عبدالمجيدالثقافة في عملية الاتصال بين الشعوب قاعدتها الأولى هي الحوارات أما أهدافها فتعزز من خلال التعايش مع كل المخالف والمغاير من إنتاج مراحل التاريخ المتعددة وما أفرز عبر حقب تاريخية مختلفة، جعلت من تراث الإنسانية الثقافي عملية تخاطب ومعرفة أسسها الاعتراف بالآخر وعدم الوقوف عند نقطة الرفض او تحويل ما لم يتفق عليه إلى ساحة تصارع قد تذهب بالعقل إلى رفع سلاح الإلغاء بوجه كل من يخالفه في القراءة أو الرؤية.يطرح علينا المفكر الدكتور ادوارد سعيد وجهة نظرة الكونية الساعية نحو أفق عالمي للثقافة قائلاً : ( أريد الحوار بين الثقافات والتعايش بين الشعوب: ويشير كل ما كتبته وكافحت من أجله إلى هذا الهدف. غير إنني أعتقد أن شرط وجود الحوار الحق هو تحقق المبادئ الحقة والعدالة الحقة).ما يريده الكاتب ويطالب به في مبدأ الحوار، هو العدالة والحق في التخاطب بين الشعوب. فالثقافة بقدر ما تمتلك من مقدرة على التواصل والتلاقي مع الأطراف، بالقدر ذاته تملك إفرازات مضادة قد تخلق حالة من التعالي والتطرف عندما تجعل الذاتية هي محور رؤيتها للعالم وهنا يصبح مشروعها الكوني مرحلة جديدة من الهيمنة على أوطان وشعوب، وتدخل في دائرة العداء والاعتداء على الطرف الآخر، ويصبح أفقها العالمي هو الاحتواء لكل ما هو مغاير لها، وتلك أزمة في الضمير الثقافي العالمي أنتجتها فترات الاستعمار والصراع على المصالح.فثقافة القوة أو المنتصر قد توجد مراحل من السكون والاستسلام عند المغاير، لكن الضغط النفسي والشعور بالقهر وسحق الهوية تتراكم فيها كل عوامل الانفجار والتمرد والخروج عن الهيمنة القاهرة.وهنا تتحول حالات السكون إلى ساحات مواجهة وتصادم فكرياً ونفسياً وعقائدياً وبشرياً بين الحضارات والشعوب، لذلك نجد الدكتور ادوارد سعيد يطالب بالحق والمبادئ للعدالة الحقة، دون هذا الشرط لا تلقي الشعوب ولا الحضارات تحت مظلة الحقوق المشروعة.وهنا يأتي دور المثقف في هذا المشروع الكوني، المثقف الحامل لمعاني الرؤية الإنسانية في هذا الصراع الحضاري.يقول المحرر بول بوقية: (تجسد أعمال سعيد ثلاث قيم جوهرية للمسؤولية الفكرية، وهي اتساع وعمق المعرفة والصرامة البحثية، وأساس عميق من الأخلاقيات، وأساس عميق من الأخلاقيات السياسية من النوع الذي يجعل بمفرده المدنية ممكنة. وبانتقاص إحدى هذه الفضائل، يصبح المفكرون كتبه، أو مهنيين ذوي اهتمامات متخصصة وطموحات وظيفية).هذه الرؤية لمكانة الكاتب ـ المثقف في هذا العالم هو ما يسعى إليه الدكتور ادوارد سعيد، فعميق المعرفة وأتساعها هي النافدة التي يطل منها الكاتب على هذا العالم، الشعوب والحضارات وعوامل الالتقاء وأسباب التصادم، فبدون المعرفة الكبرى والشاملة تصبح الثقافة صاحبة رؤية مكسورة، وربما تصاب بالشلل كلما سعت للاقتراب من الآخر، فهي تجعل من أسلوب الرفض المبدأ الذي سقط من خلاله كل تصورات الانتقاص والعجز عند الآخر وإنزاله إلى مرتبة دونية في الكيان البشرى، ما يجعل الثقافة عملية سيادة لطبقات على أخرى بين الشعوب، وفي هذا توظيف للمعرفة في دائرة المشروع السياسي للقوة الهادفة للسيطرة على تاريخ وحضارة الغير، وهو ما يشعل الحروب وتكون عملية فرض السيادة قوة قهر بين الأمم.أما الأسس العميقة من الأخلاقيات السياسية، فهي المفارقة والأزمة الكبرى بين الثقافي والسياسي.بين من يحمل مشروع الهيمنة الحضارية وإعادة إنتاج وسائل السيطرة والقهر. وبين من يبحث عن مساحة من حوار الفكر، تبدأ مسيرة جديدة من الأحاديث والمراهنات والقراءات عند درجات الصغر من البدايات وتتسع دوامات الاختلاف ومحاولات إيجاد بعض من أشكال التحاور، غير أن السياسي لا يضع في أفقه المعرفة سوى المصالح. فهي الجوهر والشكل في نظرته للغير، فالمثقف القادم إلينا من الغرب مع مشروع حضارته المهيمن، لا يطرح للأخلاق مكانة إن هي سدت أمامه السبل في تنفيذ مآربه,عندما يعيب أحد هذه الأسس عن مكانة وإمكانية الكاتب يسقط من حيث المسؤولية إلى تحت مستوى التاريخ، ويتحول أهل الفكر إلى مجموعة كتبه وفي ذلك تذهب ملامح رؤيتهم إلى زاوية لا ينظر من خلالها الإ لمساحة من التخصص وهنا تتراجع الرؤية الكونية لدور الثقافة، فالأفق العالمي يخرج مفهومه من مبدأ التحاور والمشاركة إلى أقصى مستويات الفردية في الحوار مع الغير، والدكتور ادوارد سعيد يرى في الثقافة أخلاقيات حضارية تسعى لإنهاء الصراع وتواصل الجهد لقيام حضارات معرفية تهدف إلى تلاحم الأمم المتعددة الأعراق والمذاهب والمعارف واللغات، كل هذه العوامل تصبح الزاد العالمي الذي يوحد بين البشرية باسم العدالة ويكون الإنتاج المعرفي حالة ارتقاء إلى درجات من التقارب.ما سعى إليه الدكتور أدوارد سعيد بهذه الرؤية الثقافية، محاولة خلق نفسيات تتقارب عند الشعوب أما إنتاج ثقافة الهيمنة وجعل المعرفة قوة قهر، فلا يأتي الا برغبة الرد الرافض واستحداث مناطق جديدة من العداء، وجعل الحرب هي الطريق الوحيدة لإثبات الذات، وهذه المراهنات بقدر ما تسيدت في حقب من الأزمان سقطت عبر مراحل التغيير والتحولات التي تمر بها الشعوب، لأن الاستمرار في نفس الفرضية لا يؤدي الا إلى التصادم وثقافة التصادم لا تولد غير الإنفجارات وإدخال الشعوب في فترات من التناحر والحقد.يرى الدكتور ادوارد سعيد، أن الكتابة ذاكرة لا تقهر، وذلك ما يلقي على الثقافة مهمة إنسانية كبرى في حوار الحضارات وكيف تصبح المعرفة أداة لخلق قيم التصالح بين الأمم، وتلك حالات لا تستقر فيها الأوضاع عند حدود معينة كما دلت تجارب وأحداث صنعتها مصائر الأمم، فالثقافة لا تصل إلى الأفق العالمي الا إن هي حملت رسالة إنسانية قائمة على الأخلاق ومبدأ التعايش مع الجميع، أما لو بدلت هذا المفهوم تصبح قوة ضرب واستبعاد وهيمنة وتظهر الوجه المتوحش من شكل العلاقة مع الآخر.للتوسع في هذا الموضوع راجع كتاب: الحق يخاطب القوة إدوارد سعيد وعمل الناقد، المحرر/ بول بوقيهترجمة/ فاطمة نصرإصدارات سطور الطبعة الأولى/ 2001م مصر
أخبار متعلقة