محمد زكريافي ذات صباح من يوم السابع من أغسطس سنة 1880م ، رست على ميناء عدن سفينة على ظهرها عدد من الأوربيين وكان الأغلب والأعم منهم من الإنجليز المسؤولين الذين يعملون في الشؤون العسكرية ، والخدمة المدنية في تلك المستعمرة الهامة من مستعمراتها التي لا تغيب عنها الشمس . وكان من بين هؤلاء الأوربيين بطلنا الذي نحن بصدد الحديث عنه وهو الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي مكث واستقر في عدن نحو أربع سنوات ومن خلال رسائله العديدة الذي كان يرسلها إلى أخته ، وأمه في فرنسا تعرفنا على حياته في تلك المدينة الراقدة منذ الأزمنة السحيقة على بركان خامد كان الذي يكرهها ويحبها في نفس الوقت . [c1]حياة رامبو [/c]ولد الشاعر آثر رامبو في شرلفيل وهي مدينة تقع في حضن الريف الفرنسي , وعندما صافحت عيناه الحياة ، وشب عن الطوق وجد مدينته ضيقة لا تسع أحلام طموحاته الواسعة والعريضة . لقد أحس رامبو بوحشة قاتلة بسبب الحياة المملة والراكدة والخامدة في تلك المدينة الذي يلفها السكون والضباب . كان منذ سفره يعشق ومتعطش للسفر إلى مختلف أنحاء العالم . كان لا يهدأ أبداً ، كانت حياته سلسلة طويلة من القلق والأرق ، والعذابات ، والسخط على الحياة وعلى نفسه ، كان يصب جم غضبه على كل ما يراه . ويبدو أن روح الشاعر المضطربة التي تموج بها نفسه قد أثرت على رؤيته للحياة ، فمفهومه للحياة ، ونظريته إليها سحبت نفسها على أفكاره وآرائه في المدن الذي زارها ، والناس الذي التقى بهم ، وخالطهم . وكما قلنا سابقاً ، أن أمواج حياة رامبو كانت صاخبة ومضطربة لا تهدأ , وعندما كانت تنكسر حدتها وفورانها على صخور شاطئ الفشل ، كانت تعود أكثر اضطرابًا ، وغضبًا . [c1]مفهومه للحياة [/c]كان آرثر رامبو ، يرى أن البقاء في مكان واحد ما هو إلا الموت أو الانتظار للموت فهو دائما يردد بأن “ الحياة دائماً في المكان نفسه أمر بائس جدًا “ . والحقيقة أن بطلة قصتنا رامبو ، كان منذ صباه يتقد ذكاءً ، وطموحًا واسعًا لا نهاية لحدوده . كان منذ صباه يهيأ نفسه على الترحال ، فتعلم اللغة الروسية ، الإنجليزية ، والعربية ليعرف عن كثب عادات وتقاليد الشعوب الذي سيلتقي بهم من خلال رحلاته المتعددة . ولكن الحقيقة ، تقول أن الشاعر رامبو بالرغم من زيارته الكثيرة إلى عدد من بلدان العالم أو زيارته لباريس لم يدون ويسجل ملاحظاته عن منظر بديع أو تراث أصيل ، ومن يقرأ ما كتبه في رسائله العديدة إلى أهله في فرنسا عن عدن ، سيلفت نظرته السلبية في وصفها أو بمعنى آخر أن رامبو بالرغم من عشقه في الترحال لم يكن من نوع الرحالة الذين يتفننون في تسجيل وتدوين حياة المدينة ، وعادات أهله وتقاليدهم . ويبدو أن سخطه وغضبه الدائمين على حياته ، قد أعمت عيناه عن تسجيل وتدوين الملاحظات والمشاهد عن هذا البلد أو ذاك . وهذا ما أكده الدكتور مسعود عمشوش في كتابه الرائع بعنوان ( عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين ) - والذي نعتمد عليه اعتمادا كلية في بحثنا هذا عن حياة رامبو في عدن - ، فيقول : “ قبل أن نشرع في عرض بعض أحكام رامبو على عدن ، ينبغي أن نشير إلى أنّ رامبو الذي كان ينوي أن يقضي حياته كلها في الترحال والتنقل بين بلدان العالم ، لم يكن مراقباً جيدًا . وفي الحقيقة نادرًا ما أبدى رامبو تجاه جمال المناظر الطبيعية الموجودة حول مدينة شارلفيل ، أو تجاه المعالم الحضارية في المدن التي زارها بدءًا بباريس ، وانتهاءً بهرر ذات المساجد البيضاء “ . [c1]رامبو ومشاعر السخط[/c]ولقد ذكرنا أن نفسية رامبو القلقة والمضطربة دائمًا أثرت على رؤيته للأشياء تأثيرًا سلبيًا ، فهو دائمًا ساخطاً على المدن الذي كان يزورها أو يعيش فيها ، فيطلق للسانه العنان في نقدها نقدًا لاذعًا لا يخلوا من السخرية الحادة. وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور عمشوش : “ ... لا حظ بعض هؤلاء الدارسين أن (( الشاعر ألانحطاطي)) رامبو نادرًا ما لجم لسانه عن سب هذه المدينة أو تلك ، بسبب أو بدون سبب . وعند تقييمنا لآراء رامبو حول عدن ، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضاً ارتباط تلك الآراء والحكام بالظروف التي يعيشها رامبو ، ومشاعر الخيبة ، وعدم الرضاء التي قلما فارقته “. وفي الحقيقة كان يرى الشاعر رامبو الساخط بصورة مستمرة البلدان الذي زارها ومنها مدينة عدن الذي مكث واستقر بها حوالي أربع سنوات - كما قلنا سابقاً - برؤية سوداوية قاتمة . والجدير بالإشارة ، لقد أطلق الدارسون على شخصية رامبو ب- ( الشاعر الأنحطاطي ) وهذا دليل بأن تلك التسمية للشاعر رامبو لها أبعادها على سلوك شخصيته , وأن هذا الوصف لم يأتِ من فراغ ، فشخصيته المضطربة ، والقلقة ، والساخطة بشكل دائم عكس على وصفه لمدينة عدن فتارة يهاجمها بقوة بصورة تدعو إلى الدهشة ، وتارة أخرى يفضلها عن المدن الأخرى الذي زارها وشاهدها ، فحالته النفسية - كما أشرنا في السابق - أمواج مضطربة أو بعبارة أخرى يعيش في انفصام مع نفسه. [c1]نظرة سوداوية[/c]لقد ذكرنا أن الشاعر الفرنسي رامبو كانت حياته سلسلة متواصلة من الغضب والسخط بسبب اعتقاده أنه يتعرض للاضطهاد من قبل الظروف التي تقف حجر عثرة في سبيل أن يصبح من أصحاب الأموال ، ومما زاد في سخطه هو أنه كان يعمل في أماكن يظن أنها لا تناسب مواهبه وذكاءه المتقد ، وأنه أفضل من رؤسائه ، وأن الأخيرين يستغلونه استغلالاً بشعا وبسبب تلك الفكرة التي ذكرناها كانت السبب الرئيس في نقده اللاذع لكل شيء فضلاً عن أنه روحه المتمردة دائماً تزيد من عذاباته ولذلك عند نظر إلى عدن نظر إليها نظرة سوداوية ، عابسة ، وقاتمة خالية من الإيجابيات . [c1]الرسالة الثانية[/c]وهذا ما نجده في رسالته الثانية الذي بعثها لأهله في فرنسا. وهذا ما أكده الدكتور مسعود عمشوش في صفحات كتابه ، قائلاً : “ في الحقيقة لم يتحدث رامبو عن موقع عدن إلاّ في رسائله التي يعبر فيها عن نيته مغادرة عدن والبحث عن عمل في مكان آخر . لهذا نعتقد أنه من الطبيعي أن يأتي معظم أحكام رامبو على موقع عدن ( يقصد وصف المدينة ) مبالغة في السلبية ، إذ أنّ الدافع الحقيقي لإصدارها هو تبرير المغادرة “ . ويوضح عمشوش وصف رامبو لمدينة عدن في رسالته الثانية أما الرسالة الأولى الذي أرسلها لأهله ، فقد عبر عن رغبته الرحيل عن عدن إلى مكان آخر . أما الرسالة الثانية ، فهو يصف فيها عدن بصورة حادة ولاذعة تنم عن عدم رضاه في حياته في عدن . وفي هذا الصدد ، يقول عمشوش : “ وفي رسالته الثانية التي حررها في 25أغسطس 1880م ، يتحدث أولاً عن ضآلة الأجر وغلاء المعيشة ، وعن عزمه على السفر . وبعد ذلك يقدم عدن ( أي يصفها ) ، قائلاً : “ عدن صخرة قبيحة ، لا يوجد فيها عود أخضر واحد ، ولا قطرة ماء صالحة للشرب ، (( إننا نشرب ماء البحر المقطر )) . [c1]عدن قعر بركان [/c]وفي رسالة أخرى يرسلها إلى أهله في 28 سبتمبر 1885 ، يصف مدينة عدن وصفاً حادًا وسلبيًا ، جاء فيها : “ لا يمكنكم أبدًا أن تتصوروا هذا المكان ، لا توجد أية شجرة هنا حتى يابسة ، ولا وعود قش ، ولا قطرة ماء عذبه ، ولا ذرّة تراب ، فعدن قعر بركان ساكن ومطمور بالرمال البحرية , ولا يمكن أن نرى فيها إلاّ الصخور البركانية والرمال . ويمضي رامبو في حديثه ، قائلاً : “ حيثُ لا يمكن أن ينمو أي نبات حول عدن ، تمتد صحراء رملية قاحلة تمامًا ، لكن هنا في عدن تمنع جدران البركان وصول الهواء إلينا ، لهذا فنحن نشتوي في قعر هذا الجُحر ، كما لو أننا في فرن جير . إنّ المرء ينبغي أن يكون مجبرًا على البحث عن لقمة العيش كي يقبل العمل في مثل هذا الجحيم “ . [c1]الرسالة الثانية [/c]وفي رسالته الثانية الذي أرسلها إلى أهله في 25أغسطس 1880م ، يتناول فيها مناخ عدن الحار ، بعد أن تناول وصفها ــ كما قلنا سابقاً ــ ، فيقول : “ الحرارة في عدن مرتفعة جدًا ، لا سيما في شهري يونيو وسبتمبر ، فهما قمة القيظ ، إذ يبلغ معدل درجة الحرارة في مكتب جيد التهوية 35 درجة . وفي نفس السياق ، يقول رامبو عن حرارة الجو في عدن في رسالته الثالثة الذي بعثها لأهله : “ هنا تتصبب من أجسامنا عدة ليرات من الماء يوميًا ، حرارتي 40 درجة ، وأريدها أن تبلغ الستين ... أتمنى لكم ألف حظ ، وصيفاً طوله خمسون سنة دون توقف “ . والشيء المدهش هو أن ذلك الشاعر الذي لفتت أشعاره نقاد فرنسا ووضعه النقاد في مصاف الشعراء الكبار في عصره يتحدث بأسلوب ساذج وسطحي عن عدن ، فهو لم يصف عادات وتقاليد عدن في سنة 1880م أو بمعنى آخر لم ينفذ إلى حياة عدن الاجتماعية ، فيكتب جانبا من جوانبها ، علمًا أنه كان محتكًا بالناس على تباين مشاربهم الاجتماعية بحكم عمله . ولقد ذكرنا سابقاً ، أن رامبو هذا الشاعر لم يكن مراقبًا جيدًا - على حسب تعبير الدكتور عمشوش - وبمعنى آخر لم يكن رحال يعشق الترحال من بلد إلى بلد آخر ليتعرف على الشعوب وعاداتهم ، وتقاليدهم ، وحياتهم الثقافية والفكرية . ويبدو أن مزاج رامبو العصبي جعل الكثير من الناس تنفر من أسلوبه ، فهو لم يقم بأية علاقة جيدة مع السكان المحليين . وهذا ما أكده الفرد بارديه صاحب كتاب(( بر العجم )) “ أن علاقة المحليين برامبو الذي يطلقون عليه (( الكراني )) لم تكن جيدة “ . ومن المحتمل أن رامبو ، “ قد أخذ بنصيحة الضابط دوبار بألا يحتك أو يتدخل بأي شكل من الأشكال في شئون السكان المحليين . كما أن السلطات الإنجليزية نصحت الأجانب المقيمين في عدن بعدم الاختلاط بالسكان المحليين أو التوغل في المناطق التي يعيشون فيها “ - على حسب قول الدكتور عمشوش - .[c1]رامبو تاجر سلاح [/c]والحقيقة لقد كان الدافع وراء ترحال رامبو هو البحث عن الثروة ، وأن يدخل في زمرة الأغنياء ولذلك نجده يندفع إلى تجارة بيع السلاح ، ويبذل قصار جهده أن يمول تلك التجارة البشعة إلى أفريقيا حيث الصراعات الطاحنة المندلعة بين الممالك والإمارات الأفريقية فيما بينها . وفي الحقيقة لقد شهد منتصف سنة 1884م أحداث خطيرة في شرق أفريقيا , فقد عمدت الدول الاستعمارية على إشعال نار الصراعات بين الحكام والأمراء في القارة السمراء ( أفريقيا ) . وكانت تلك الأجواء الساخنة والملتهبة على أرض أفريقيا فرصة سانحة وثمينة لتجار الأسلحة الأوربيين لبيعها هناك . ولقد رأى الشاعر الفرنسي رامبو أنها فرصة نادرة أن يغتنم تلك الفرصة أيضاً ، وأن يكون تاجرًا لبيع السلاح ومن خلالها يحقق ثروة هائلة . وربما كان مناسبًا ، أن نقتبس كلام الدكتور عمشوش حول دخول الشاعر رامبو في سوق تجارة السلاح ، فيقول : “ وفي تلك الفترة ، استطاعت الدول الاستعمارية أن تدمر القوات المصرية والعثمانية الموجودة في الحبشة ، وذلك بطرق حربية غير مباشرة أهمها تهريب السلاح إلى رؤساء القبائل بعد عقد اتفاقيات حماية معهم . لهذا تحوّل عدد كبير من التجار الغربيين بل ومن المبشرين إلى مهربي أسلحة “ . ويسترسل في حديثه : “ ومن الطبيعي أن يفكر رامبو مثل غيره من التجار الفرنسيين الموجودين في عدن في اغتنام تلك الفرصة وتجميع الثروة التي يحلم بها من خلال بيع الأسلحة في شهر أكتوبر 1885. اتصل رامبو بأحد التجار الفرنسيين المقيمين في الحبشة ، بيير لباتو الذي كان قد قام بالتنسيق اللازم لوصول كمية كبيرة من البنادق المجددة والرصاص إلى ميناء تاجورة الواقع قبالة جيبوتي الذي كانت فرنسا قد احتلته في ديسمبر 1884 ، واتفق رامبو ولباتو على تكوين قافلة مشتركة لنقل تلك الأسلحة من تاجورة وبيعها لمنيليك الثاني ملك الشاو (الواقعة في منطقة الحبشة ) . [c1]عدن والحياة الاقتصادية [/c]وفي الحقيقة أن رسائل آرثر رامبو لأهله توضح أن عدن كانت في تلك الفترة التاريخية ملتقى للتجارة العالمية أو بمعنى آخر كانت همزة وصل بين أوربا وشرق أفريقيا والهند حيث كانت تتجمع فيها بضائع وسلع بلدان العالم حيث “ كان رامبو يقوم بشراء البُن ، والصمغ ، والبخور، وريش النعام ، والعاج ، والجلود والقرفة”. فكل تلك السلع والبضائع التي ذكرناها كانت تأتي من شرق أفريقيا ، وشرق جنوب آسيا ( الهند ) . وكان التجار المصريون يشترون تلك السلع والبضائع من عدن ومن ثم ينقلوها إلى الدول الأوربية . وهذا دليل واضح بأن عدن كانت تموج بالنشاط التجاري بخلاف ما ذكره رامبو أن الحياة في عدن لا تطاق بسبب تكاليف الحياة المعيشية فيها ، علمًا أن عدن في تلك الفترة التاريخية كانت تعد من أرخص موانئ وبلدان العالم . [c1]رؤيته لمدينة عدن [/c]ولكن رامبو يرى بمنظار أسود للأمور في عدن بسبب حالته النفسية الكئيبة الذي يعاني منها . والحقيقة لقد كان رامبو يشعر في قرارة نفسه أنه مضطهد دائماً من قبل مرؤوسيه بالرغم من أنه أفضل منهم بسبب ذكاءه الحاد ، وثقافته الواسعة بالنسبة لهم ، وبمعنى آخر أن حالته النفسية المتناقضة دائماً أثرت عليه تأثيرًا سلبيًا في رؤيته لمدينة عدن الذي كان يمقتها و بالرغم من ذلك فقد مكث واستقر فيها قرابة أربع سنوات - كما قلنا سابقاً - . وهذا ما أكده الدكتور عمشوش صاحب كتاب ( عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين ) ، فيقول : “ يخضع مناخ عدن أيضاً لطبيعة الظروف التي يمر بها رامبو . ففي بداية عام 1884 “ ، مثلاً يضطر رامبو إلى مغادرة هرر مرة أخرى . وكان قد سبق له أن وصف طقس تلك المدينة الحبشية المرتفعة عن ساحل البحر أنه سيء جدًا . ففيها “ يسقط المطر من مارس حتى أكتوبر دون انقطاع ، والترمومتر لا يتجاوز العشر درجات “ . يضيف مسعود عمشوش ، قائلاً : “ لكن عندما يقضي رامبو الأشهر الأربعة الأولى من عام 1884 في عدن بدون عمل . يبدأ يتذمر من كل شيء في عدن . ويتمنى أن يسرع الجيش الإنجليزي في احتلال هرر ليتمكن من العودة إليها. [c1]عدن والحياة الاجتماعية[/c]والحقيقة أن الرسائل العديدة الذي كان يبعثها لأهله ( أمه وأخته ) عن الفشل الذي يلازمه في عدن ، وأنها مدينة ترقد على قعر بركان لم يتحدث من قريب أو بعيد أو حتى إشارات سريعة وخاطفة أو بخطوط عامة عن حياة عدن الاجتماعية . فقد كانت - كما أشرنا في السابق - رسائله الذي كان يبعثها إليهم من عدن كلها تدور حول ضرورة الرحيل من المدينة لأنها مدينة مناخها حار جدًا ولا يوجد بها ضرع ولا زرع ، وأن الجبال تحيط بها من كل مكان ، فيكاد المرء أن يختنق بسبب حجزها للهواء . علمًا بأنه كانت هناك إشارة خاطفة عن الحياة الاجتماعية في عدن ذكرها رامبو في بداية عمله في عدن سنة 1880م . عندما كانت من مهام عمله هو مراقبة النساء اللواتي يعملن في تنقية البُن . وفي هذا الصدد ، يقول عمشوش : “ كان الضابط المتقاعد دوبار قد سارع بتوظيفه في شركة فياني - مازران - بارديه التي كان يدير مكتبها في عدن . فهو في الحقيقة لم يعطه إلا عملاً ثانويًا ومملاً يكمُن في مراقبة مجموعة من النساء يقُمن بتنقية البُن قبل تصديره إلى مرسيليا “. ومن المحتمل أن هؤلاء النساء اللواتي ذكرهن عمشوش في كتابه من الهنود الفقراء أو من الطبقات الاجتماعية الفقيرة التي لا تستنكف العمل في تلك الأعمال البسيطة و المتواضعة . وهناك أيضًا ملاحظة وهو أن البُن اليمني والذي كان يُعرف بابُن مخا كان مازال مشهورًا في أوربا في تلك الفترة التاريخية ودليل ذلك أنه كان يرسل إلى مرسيليا في فرنسا بعد تنقيته من الشوائب بكميات تجارية كبيرة . [c1]الرسالة الرابعة[/c]وكان من الطبيعي مثل شخصية رامبو الشاعر المتقلب المزاج دائما والذي نعته النقاد الدارسون لطريقة وأسلوب حياته ب- ( الشاعر الانحطاطي ) أن يكون بعيدًا عن تدوين ، وتسجيل المشاهد والملاحظات عن عادات وتقاليد الحياة الاجتماعية في عدن ، فدائماً كانت رسائله الذي يرسلها إلى أهله تنعت عدن بأنها “ أضجر مكان في العالم “ أو بعبارة أخرى أن رسائله تتسم بالسطحية وبعدها عن الموضوعية بسبب عقدة النقص التي أصابته والتي ملكت عليه كل خواطره وهو أنه يشعر أنه فوق الجميع . وفي رسالته الرابعة المدونة في سنة 1881م ، يقول فيها : “ من المحتمل أيضاً أن أسافر على الحبشة حيثُ تمتلك الشركة بعض القوافل . سأحقق هناك بعض الأرباح ، وسأضجر أقل ، فعدن كما يعرف الجميع أضجر مكان في العالم بعد المكان الذي تسكنونه . [c1]من هرر إلى عدن[/c]وبعد فترة من مكوث رامبو صاحب المزاج المُتقلب ، وحالته النفسية والعصبية المضطربة في هرر والذي كان يعتبرها أفضل من عدن ، فإنه سرعان ما تضيق نفسه المضطربة منها ويطلب من أهله في فرنسا العثور له على معلومات عن الأعمال في بنما بأمريكا اللاتينية , ولكنه في يوليو سنة 1881م “ يطلب من الشركة إعادته إلى فرعها في عدن ، وبعد إلحاح شديد يُقبل طلبه ويصل إلى عدن في بداية يناير 1882 “ . ولم يمض أقل من شهرين حتى يعود رامبو الشاعر (( الانحطاطي )) ذو الشخصية المتقلبة المزاج دائماً إلى الشكوى والتذمر الكبيرين من عدن ، ويفكر بالرحيل عنها وربما يرحل إلى هرر مرة أخرى ، علمًا أنه ألح - كما ذكرنا - من الشركة ، عندما كان في هرر العودة مرة ثانية إلى عدن. ولم ينقض شهرين حتى عاودته روح القلق ، والتذمر ، والشكوى مرة أخرى - كما أسلفنا - من عدن التي ترقد على فوهة بركان أو على قعر بركان - حسب تعبير رامبو - ، ولقد كتب في رسالته الرابعة إلى أهله أنه ينوي الرحيل من عدن والعودة إلى هرر مرة أخرى . فقد جاءت في رسالته تلك : “ لا أنوي البقاء طويلاً في عدن ، فهنا لا توجد لي أية مصالح ، إذا رحلت - وأني عازم على السفر قريبًا - سأتوجه على هرر أو سأذهب إلى زنجبار ... “. [c1]الرسالة الخامسة[/c]ويبعث رامبو في 10 مايو 1882م رسالة إلى أهله يعبر عن خيبة أمله وفشله الذريع في عمله ، ورتابة الحياة في عدن ، ويشكو من مصروفاته الكثيرة فيصب غضبه الشديد على المدينة ، ويقول في تلك الرسالة : “ لا جديد في حياتي هنا أعمل في العلبة نفسها ، وأكدح مثل الحمار في بلدِِ أكره تمامًا ، وفوق ذلك مصروفاتي في عدن كثيرة . وهذا يدفعني إلى الرحيل لأرهق نفسي في أي مكان أخر “ . ومما زاد من شكوى وتذمر ، وسخطه على عدن إلى جانب مزاجه الحاد ، والمتقلب كأمواج البحر هو أنه قد عاني من حمى هضمية ، فكتب في رسالته السادسة إلى أهله ، قائلاً : “ إنني أخشى ألاّ أغادر هذا المكان ، فصحتي متدهورة. سنة هنا تساوي خمس سنوات في مكان آخر “ . [c1]الرسالة السابعة[/c]و تلفت تلك الرسالة نظرنا أن الأجواء الدولية تلبدت بغيوم الحرب مما أثر ذلك على حياة عدن الاقتصادية والعسكرية ، فقامت بالسلطات الإنجليزية في تحصين المواقع الدفاعية في المدينة تحسبًا لتعرضها لهجمات بعض الدول الأوربية ( فرنسا ، إيطاليا ، ألمانيا ) ، علمًا أن إنجلترا كانت لا تسمح أبدًا أن يعكر صفاء البحر العربي ( المحيط الهندي ) ، والبحر الأحمر أية قوى أجنبية حيث ترى أن عدن هي الطريق المؤدي إلى الهند ، وكان من الطبيعي أن تحافظ على عدن بشتى الوسائل والطرق لكونها المدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر أو بعبارة أخرى مفتاح جنوب البحر الأحمر , وشريان إنجلترا إلى الهند ــ كما قلنا سابقاً ــ . وفي تلك الأوضاع السياسية الخطيرة التي تهدد مدينة عدن ، والبحر الأحمر ، كتب رامبو في 14 أكتوبر ، و26 مايو 1884م و 14 أبريل 1885م رسالة إلى أهله تحمل في طياتها السخرية اللاذعة ، مثل رسائله السابقة ، وتمنى من أعماق قلبه أن تصير المنطقة الذي يعيش فيها إلى قطعة من الجحيم ، وتنقلب الأمور فيها رأسًا على عقب ، فيقول : “ توقعًا للحرب ، بدأت السلطات هنا ترمم المواقع الدفاعية ، سيسرني أن أرى هذا المكان ينقلب رمادًا ، لكن ليس وأنا فيه . وعلى كل حال ، أتمنى أن لا أضطر إلى تبذير جزء آخر من حياتي في هذا المكان “ .[c1]لماذا البقاء في عدن ؟ [/c]ويطرح الدكتور مسعود عمشوش عددًا من التساؤلات حول بقاء الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الساخط دائماً على عدن نحو أربع سنوات والذي نعتها بأنها أضجر مكان في العالم ، وأنها ترقد على قعر بركان ، وأنها الجحيم بعينه ، وعندما تجمعت نذر الحرب على سمائها ، تمنى من أعماقه أن تصير المدينة رمادًا ، فيقول : “ بعد أن قمنا بهذا العرض السريع لبعض أحكام رامبو على عدن التي جاءت في الغالب سلبية نندهش ونتساءل عن الأسباب التي أجبرت رامبو على قضاء ما يزيد على 45 يومًا ، على الرغم من أنه لم يعشقها ، ولم يكن في يوم من الأيام سعيدًا فيها . والحقيقة أن رامبو الشاعر الحاد المزاج المتقلب الطباع بالرغم من كره العيش في عدن . فقد رفض الانسلاخ عنها نهائيًا أو بعبارة أخرى تسلل حبها إلى قلبه . فقد كتب في رسالته الأولى في 25 أغسطس سنة 1880م ، أنه لن يستطيع في الوقت الحالي أن يغادرها بسبب عدم وجود المال الكافي الذي يمكنه من الرحيل عنها .فقد كتب إلى أهله بالحرف الواحد : “ عندما تكون بحوزتي بضع مئات من الفرنكات سأرحل إلى زنجبار حيثُ يقال إنّ بها أعمالاً “ . [c1]عدن أفضل مكان ![/c]وبالرغم من حصول رامبو على المال الكافي ، فإنه يعود مرة أخرى إلى أحضان مدينة عدن الذي نعتها - كما أسلفنا - بأنها أضجر مكان في العالم , ولم يغادر عدن نهائياً إلى فرنسا إلا وهو على فراش المرض أو إذا شئت فقل على فراش الموت في التاسع من مايو 1891م . ونكتشف أن هذا الشاعر الحاد الطباع والمزاج رامبو يصف عدن الذي كان يكرهها من أعماق قلبه من خلال ما كان ينعتها في رسائله العديدة إلى أهله ، بأنها صارت أفضل مكان بالنسبة له وذلك بعد أن عاش تحت شمسها الحارقة أربع سنوات. ويورد عمشوش الأسباب الحقيقية وراء بقاء رامبو في عدن أكثر من 45 يوماً ، فيقول : “ أما بعد مضي حوالي أربع سنوات على وصوله إلى عدن ، فيبدو أنّ رامبو قد بدأ يتكيّف على الحياة القاسية في عدن . فهو يؤكد أنه لن يستطيع العودة إلى أوربا : لأنه ابتعد كثيرًا عن عاداتها ولغاتها ، ويشعر أنه سيكون غريباً في فرنسا . ففي نهاية مايو 1884 ، على الرغم أنه كان يعيش منذ ستة أسابيع دون عمل ، يرى رامبو أنّ عدن تبقى بالنسبة له ألأفضل . ويشرح ذلك لأهله في رسالته في 29 مايو 1884 التي ، يقول فيها : “ منذ ستة أسابيع وأنا بدون عمل ، الحياة هنا أصبحت غير مطاقة في هذه الحرارة الشديدة ، لكن من الواضح إنني لم آتِ إلى هنا لأكون سعيدًا . وعلى الرغم من ذلك ، لا يمكنني مغادرة هذه المناطق الآن ، بعد أنّ أصبحت معروفاً فيها ، وحيثُ سيمكنني أنّ أجد دائمًا ما أعيش به ، بينما في مكان آخر لن أجد غير الموت جوعًا “ . ويسترسل عمشوش ، قائلاً : “ وكان رامبو قد بعث برسالة أخرى إلى أهله في 15 مايو 1884 ، قال فيها : “ إنني مجبر على العيش لفترة طويلة أخرى ــ وربما إلى الأبد - في هذه البقاع حيثُ يعرفني الناس وحيثَ سأجد دائمًا عملاً ، بينما في فرنسا ، سأكون غريبًا ، ولن أجد شيئاً “ .[c1]تحت شمس عدن[/c]وفي الحقيقة أنّ رامبو الذي كان يتذمر ويشكو الأمرين من شمس عدن الحارقة التي تصهر الصخور الصماء في رسائله العديدة الذي كان يرسلها إلى أهله في فرنسا ، ولكن بعد مضى أربع سنوات في المدينة تكيف على مناخها الحار ، وأن رحيله إلى موطنه فرنسا يعني له الموت بردًا . وهذا ما كتبه إلى أهله في 15 يناير 1885م ، قائلاً : “ إنّ الناس الذين فضوا بضع سنوات هنا ( يقصد عدن ) ، لن يستطيعوا قضاء فصل الشتاء في أوربا فهم سيمتون حالاً بأية ذبحة صدرية. وأنا إذا عُدت لن يكون ذلك إلاّ في الصيف ، وسأضطر أنّ أنزل في الشتاء على الأقل نحو البحر الأبيض المتوسط “ . [c1]“ عبده رامبو “[/c]ويثير الدكتور مسعود عمشوش قضية جديدة ومثيرة عن حياة رامبو في عدن وهو هل أسلم رامبو ؟ ، فيقول أنّه من المحتمل أنه دخل في الإسلام بسبب تأثره بعادات وتقاليد أهلها الذي قضى بين ظهرانيهم أربع سنوات ، ويعطي عمشوش الدليل على إسلامه أن القسيس رفض يعطيه القربان المُقدس وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، فيقول : “ ويمكنُ أنّ نُشير هنا إلى أنّ القس الذي زار رامبو على فراش الموت رفض أنّ يعطيه القربان المُقدّس وذلك لأنّه أعتقد أن رامبو الذي كان يردد في أثناء هذيانه : “ الله كريم ، الله كريم “ . قد أسلم . وفي صبيحة التاسع من شهر مايو سنة 1891م ، غادر الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي عاش تحت سماء عدن أربع سنوات , وكان ذلك الوداع الأخير للمدينة الذي كرها في البداية ، وتسللت إلى خوالج نفسه في الأخيرة فأحبها حتى الثمالة ، فقال عنها أنها “ أفضل مكان بالنسبة له في العالم “ .[c1]الهوامش : [/c]د . مسعود عمشوش ؛ عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين ، سنة الطباعة 2003م ، إصدارات جامعة عدن ـ عدن ـ الجمهورية اليمنية .
|
تاريخ
عدن في رسائل رامبو
أخبار متعلقة