الغرض من وراء مؤتمر المثقفين هو رسم سياسة للثقافة في مصر خلال السنوات القادمة .. بهذه العبارة أجاب وزير الثقافة المصري الفنان فاروق حسني على تساؤل حول مؤتمر المثقفين في أحد البرامج الحوارية. ولوحظ أن حديثه في هذه المرة على مدار تاريخه المهني اتسم إلى حد كبير بالصراحة مقارنة بحواراته السابقة.والتساؤل الذي طرح نفسه بعد متابعة حوار الوزير كاملا هو: هل مصر في حاجة الى وضع سياسة ثقافية أم أنها تحتاج إلي إصلاح ثقافي؟ فقد ذكر الوزير الفنان أنه مع بداية توليه منصبه عام1987 م اجتمع بمجموعة من كبار مثقفي مصر آنذاك لوضع سياسة ثقافية لمصر, وكان نتاج هذه السياسة العديد من قصور الثقافة, ومراكز الإبداع, والمهرجانات, والمطبوعات, والمترجمات, والمتاحف, والمكتبات.. وغيرها من الانجازات المادية في شتى محافظات مصر, وهذا بالطبع إنجاز عظيم لا يستهان به, ولكن, في مقابل ذلك ظهر تدهور ملحوظ وملموس في ثقافة المواطن المصري من ناحية, ومن ناحية أخرى تدهور في أنماط سلوك العديد من مثقفي مصر ـ أو من طرحوا أنفسهم كذلك ـ ويرجع هذا التدهور الثقافي إلى تغير منظومة القيم عند الأفراد بشكل عام.ومن هنا أجد أن مصر الآن في حاجة ماسة إلى سياسة للإصلاح الثقافي, ولن تغير منظومة القيم نحو الأفضل للمواطن المصري بمزيد من المنشآت والمؤسسات الثقافية فقط, ولكن بترسيخ قيم بديلة, لأن منظومة القيم عند الأفراد هي التي توجد شعبا إما أن يتقدم بوطنه أو يقضي عليه.والإصلاح كلمة مصدرها يعود للفعل صلح صلاحا, وصلوحا: زال عنه الفساد, وللشيء كان نافعا أو مناسبا, ويقال هذا الشيء يصلح لك, وأصلح في عمله أو أمره أي أتي بما هو صالح ومفيد. أما المعني العام لكلمة إصلاح كما هو متداول فيشير إلى اتجاهين أحدهما يعني تغيير الواقع المادي الظاهري وهو ما تهتم به كثيرا سياسات مصر, والآخر يعني بتغيير الأسس الجذرية للمجتمع وهو ما نفتقده إلي حد كبير.وتغيير منظومة القيم في مصر يرجع من وجهة نظري إلي عدة أسباب أهمها: سيطرة السياسات والأنظمة الرأسمالية التي شملت جميع الأشياء بما فيها الإنسان, فأصبحت القيم مادية هدفها تحقيق مطامع متعلقة بالسلطة والمال بأسرع الطرق وأقل الجهود.كذلك كان للتطورات التكنولوجية المتلاحقة دورها في تغير منظومة القيم, خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الآن, حيث ظهرت أجهزة تكنولوجية مثل( التليفزيون, الكمبيوتر, الإنترنت, والهواتف المحمولة) وأوجدت هذه الثورة التكنولوجية ما يعرف بالعولمة, التي أدت إلى استيراد قيم دخيلة على المجتمع المصري مثل: تغيير عادات المأكل( الوجبات السريعة), والملبس, والتحدث, والتعليم( لجوء الآباء للمدارس الدولية لتعليم أبنائهم, فظهرت أجيال من المصريين لديها انتماءات فكرية مستغربة) وكم كبير من هذه القيم قد يكون أثبت نجاحا في مجتمعات أخرى ولكنه لم يحقق هذا النجاح في المجتمع المصري لأن هناك فجوة بين توجهات الأفراد وتوجهات مؤسسات الدولة, ومن شأن سياسات الإصلاح الثقافي المساهمة في تقليصها لتوحيد توجهات الفرد مع الدولة أو العكس.وعلينا أن نأخذ في الاعتبار أن تكوين أو تعديل منظومة القيم يخضع لثلاثة عوامل هي: المكان الزمان الصلاحية. وهناك نسبية لكل عامل من هذه العوامل, فالمكان وهو حيز من الفراغ تقطنه مجموعة من البشر, نجدهم يتقاربون إلى حد كبير في ثقافاتهم وشرائحهم المجتمعية, ولهم منظومة قيم يشتركون فيها, وتتغير منظومة القيم عند الأفراد بتغيير المكان حتي في البلد الواحد, وهنا يصبح المكان نسبيا.أما نسبية الزمان فتعني, أن القيم تتغير في المجتمع الواحد بما يطرأ على أنظمتها المؤسسية من تغيرات وانتقال ثقل المجتمع من شريحة مجتمعية إلى أخرى. فعلى سبيل المثال كانت مصر في عهود سابقة تقدر العلماء والمثقفين مثل رفاعة الطهطاوي, قاسم أمين, الشيخ محمد عبده, هدى شعراوي, طه حسين.. وغيرهم, وتدفع بهم للصفوف الأولى في المجتمع. وفي الزمن الراهن أصبحت معظم المؤسسات سواء التابعة للدولة أو الخاصة تقدر فئة لاعبي الكرة, والمغنيين, والممثلين, والمدعين الموهبة معنويا وماديا, في حين أن أساتذة الجامعة, والعلماء, والمثقفين الحقيقيين لا يجدون حتى نصف هذا التقدير المعنوي أو المادي. فتبدلت قيمة النموذج المثالي للنجاح الدنيوي عند أجيال عديدة من كل ما يرتبط بالعلم والبحث إلي كل ما هو براق يأتي بالشهرة والمال. وأخيرا الصلاحية, والتي نعني بها صلاحية منظومة القيم, فكل قيمة موروثة كانت أم مكتسبة ليست بالضرورة مناسبة لمكانها وزمانها, فقياس مدى صلاحية أو فساد القيمة يتبع درجة قدرتها من عدمها علي إشباع الحاجات الأساسية للمواطن بشكل كريم, دون وجود فجوات كبيرة بين شرائح المجتمع تخل بتوازنه.أن الإصلاح الثقافي عملية شاملة, يجب أن يشترك فيها أفراد الشعب مع مؤسسات الدولة, ولن يتحقق ذلك إلا عندما يقتنع ويسعي المواطن إلى المصلحة العامة القومية التي ستعود عليه وعلي ذريته بالخير والتنازل عن المصالح الشخصية الصغيرة. ومن جهة أخرى فإن تغيير منظومة القيم للموطنين المصريين لن يتحقق إلا بتضامن جهود عدة وزارات مثل الثقافة, والتربية والتعليم, والتعليم العالي, والإعلام, فجميع ما تطرحه مؤسسات هذه الوزارات يشكل قيم الفرد سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
سياسة للثقافة أم إصلاح ثقافي؟
أخبار متعلقة