نبض القلم
الذباب، وما أدراكم ما الذباب! أمر هذه الحشرة عجيب، فعلى الرغم من أن العلماء ظلوا عدة قرون يدرسون شؤونها، فلم يستطيعوا حتى اليوم أن يكشفوا كثيراً من أسرارها، ولم يعرفوا على وجه التحديد بعضاً من خصائصها، كيف ترى الأشياء؟ وكيف تجد طعامها؟ وكيف تختار رفاقها؟ وكيف تدافع عن نفسها؟ وما إلى ذلك من معلومات.وما أشبه بعض الناس اليوم بهذه الذباب حيث عجز العلم عن كشف بعض أسرارهم، فلا يعرف على وجه التحديد كيف نمت ثرواتهم وقد كانوا فقراء؟ وكيف اختاروا رفاقهم في الفساد؟ وكيف ينجون من الملاحقة والافتضاح؟.ويعرف عن الذبابة أنها تحمل جراثيم الرمد والإسهال وكثير من الأمراض، وأن طرفي قدميها اللزجين يحملان آلاف الملايين من الجراثيم المختلفة، من بينها جرثومة (الكوليرا) و(التيفوئيد) وغيرها وهي تسبب للمزارعين خسائر فادحة بما تنقله إليهم من جراثيم تفتك بالنبات والماشية. فهي كائن قذر وسخ بغيض المنظر، وهي على صغر جسمها وضآلة حجمها واستتار سمها تضم ملايين الملايين من الجراثيم، وكذلك البعض من الناس هم حشرات قذرة متنقلة، وهوام متقلبة، قد تتضاءل أجسامهم، لكن لؤمهم عظيم، وقد تهزل جسومهم لكن خطرهم جسيم.ومن أنواع الذباب الغريبة نوع متأنق يعيش على دم الحمام، فيهجم على صغار الحمام في العش وينقل إليها في أثناء امتصاص دمها نوعاً معيناً من الحمى، وكذلك بعض الناس يأخذون الطفل البريء من أحضان أمه، فيحدثون فيه إعاقات دائمة كأن يحرقوه بحروق ظاهرة، أو يبتروا عضواً من أعضاء جسمه، ثم يطوفوا به في المساجد والأسواق ليستدروا عطف الناس ويبتزوا أموال الرحماء منهم، والعجيب أن بعض هؤلاء يبدون أمام الناس بصورة الرجل الرحيم المبتلى بحالة هذا الطفل المغلوب على أمره، وفي كثير من الحالات يلجأ بعض هؤلاء الذين لا ضمائر لديهم إلى تخدير الطفل حتى يبدو في حالة يرثى لها، ولن يتورع هؤلاء عن الإدعاء أنهم اضطروا إلى إخراج الطفل من غرفة العمليات لعجزهم عن سداد فاتورة العملية.والذبابة تستطيع أن تعيش في كل مكان تقريباً، بل إنها قد تعيش وتتناسل في داخل الجهاز الهضمي لبعض الناس والحيوانات، وقد حبست أنواع منها في داخل زجاجات محكمة الإغلاق، فأتمت دورة حياتها وتناسلت وهي محبوسة. ومثلها يفعل بعض الناس الذين ألفوا الفساد وتكيفوا معه، فهم يستطيعون أن يعيشوا تحت أي ظرف، وفي أي مكان مادامت مصلحتهم تقتضي ذلك، بل إنهم ربما يحبذون العيش في غرف مغلقة، لأن مصالحهم تستوجب أن يكونوا بعيدين عن أعين الناس، ولذا فإنهم يأتون بالحجاب الذين يحكمون إغلاق الأبواب للحيلولة دون وصول الناس إليهم، والعجيب أن هؤلاء الفاسدين يتناسلون في أجهزة الدولة كما يتناسل الذباب داخل الجهاز الهضمي.والذباب دنيء الطباع خبيث المزاج وضيع الرغبة لا يستمد غذاءه إلا من الأوساخ والقاذورات، ولا يفضل إلا الفضلات والقمامات، ولا يعيش إلا في التربة الملوثة والماء الآسن. وكذلك بعض الناس الذين يستثقلون الفضائل، فيسقطون في مهاوي الرذائل، فيعافون الحلال، ويطمعون في الحرام، فيتركون سبيل الرزق الكريم، ويميلون إلى السرقة والنهب.والذباب يقع حيث يقع في الأماكن المتسخة فيحمل معه الأوساخ والقاذورات ويطير بها مسرعاً إلى جهات صالحة فيفسدها، وأجسام صحيحة فيسقمها. يقع على اللبن النقي الأبيض فيلوثه ويفسده، وكذلك بعض الناس الذين ضعفت هممهم وتقاعسوا عن العمل فوجدوا أنفسهم في أدنى المواقع وأحطها، فإنهم بدلاً من أن يسعوا للنهوض بأنفسهم يسوؤهم أن يتقدم غيرهم عليهم، فيبذلون جهدهم لينحط الآخرون مثلهم، وهم ينظرون ـ بحقد ـ من حضيضهم إلى الجادين المثابرين، فيبذلون ما في وسعهم لجر هؤلاء إلى حضيضهم، لأنهم لا يريدون أن يروا أنواراً ساطعة تضيء محيطهم المعتم بالحقد والكراهية، لذا تقلق مضاجعهم مكارم الآخرين، ويزعجهم فوز المثابرين.والذباب ضعيف هزيل لا يحتاج سحقه إلى تعب أو مجهود، ولا يعتصم عند سحقه بعتاد أو قوة، ولكنه مع الأسف طليق، وكذلك بعض الفاسدين من الناس إنهم ضعاف، يشبهون الذباب في الهزال، ولا يحتاج القضاء عليهم إلى مجهود كبير، ولكنهم مع ذلك طلقاء، لأنهم يعتصمون بقوة السلطة وعتادها، أو حماية القبيلة ونفوذها.[c1]* خطيب جامع الهاشمي / الشيخ عثمان[/c]