هل يتفاعل العرب وعرب الخليج خاصة مع مستجدات عالمهم؟
الدنيا تتغير، والعالم يتطور، و”دار ابن لقمان” لم تعد على حالها فثمة أسلوب جديد يتبلور في عالمنا لتحقيق الوحدات المرجوة من جانب الشعوب التي تريد الوحدة. (وفي الأصل “دار ابن لقمان على حالها” مطلع لأبيات شعرية كتبها شاعر مصري عربي محذراً أحد قادة الحملات الصليبية على مصر الذي أسر في “دار ابن لقمان”، وبعد إطلاق سراحه راودته نفسه بإعادة الكرة والحملة، فقالها شاعرنا محذراً).إن “ثوابت” التوحيد مازالت قائمة في المناطق التي هي بحاجة إليها في عصر التكتلات الضخمة التي لا مجال فيها للأقزام، ولكن أسلوب تحقيق الوحدة طرأ عليه تغير نوعي لابد من أن يدركه العرب كطلاب وحدة ويمتلكوه. وذلك ما بدأت في انتهاجه الدول الأعضاء بمجلس التعاون لدول الخليج العربية.لن يأتي مجدداً بسمارك البطل التاريخي للوحدة الألمانية، بأسلوب الحديد والنار، ولن يأتي في أثره غاريبالدي الذي بدأ في توحيد ايطاليا، كلا ولن يعود ماوتسي تونغ موحدا للصين الكبرى بالمسيرة الطويلة، ولن يعود عبدالناصر لقيادة العرب نحو وحدة أخرى، (وعلى العرب الذين يريدون الوحدة أن يتعلموا من عالمهم أسلوبه الجديد الفعّال في تحقيقها).صوت الايرلنديون، مؤخراً، على قبولهم الدستور الجديد (وثيقة لشبونة) للاتحاد الأوروبي، معيدين النظر في رفضهم السابق، وباختيارهم الحر والذي اتسع لمعارضة الاتحاد الأوروبي - وبناءً على ما ارتأته دولتهم، من مصلحة مشتركة مع الأوروبيين لايرلندا، وكان هذا “التصويت الايرلندي” لشعب من بضعة ملايين قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة لتذكير العالم بأن القارة الأوروبية بملايينها سائرة في الاختيار الحر ذاته بعد أن وصل عدد أعضائها إلى 27 بلداً بعد أن كان ،15 وبعد أن وافقت بولندا، في إجراء مختلف، فإن أوروبا تنتظر عضواً صغيراً من أعضائها كي يوافق هي... تشيكيا!وفي الشرق البعيد أعلن رئيس الصين في الذكرى الستين لتوحيدها أن بلاده ستواصل سياسة “التقارب السلمي” مع تايوان، في مفارقة تاريخية تبين أن خلفاء ماوتسي تونغ يتصالحون مع خلفاء شيك كاي شيك في الجزيرة المقاومة، بعد أن كان الرجلان يتبادلان التهديد بالقتل والاقتتال!وقبل زمن قصير احتفل الألمان، رسمياً، بعودة الوحدة “الاختيارية” بين شطري أمتهم في الشرق والغرب، بعد أن جددوا انتخابهم لمستشارة قادمة من الشطر الشرقي. والمعروف أن الشطر الغربي من ألمانيا عمل بجد على بناء ازدهاره حتى أصبح نموذجاً وأملاً وحلماً للألمان الشرقيين الذين سارعوا لإعادة “وحدة ألمانيا الأم” حالما تخلصوا من الحكم الشيوعي. وقد تحملت ألمانيا الغربية، وماتزال، كلفة باهظة في سبيل إعادة الوحدة.ومازالت كوريا الجنوبية، بثرائها الاقتصادي وتقدمها التكنولوجي، تراهن على قبول توأمها “الشيوعي” الفقير والجائع، كوريا الشمالية، لاتحاد أو وحدة... فالأمة “الحية” لا تملك تقطيع “نسخها الحي” ورميه بعيداً إذا أرادت أن “تحيا”.وهذه الظواهر ليست بعيدة تماماً عن عالمنا العربي والإسلامي، وإن كانت الذهنية السائدة أكثر ميلاً، وماتزال، للنهج البسماركي الذي تجاوزه الزمن، كالخطأ التاريخي الفادح الذي اقترفه صدام حسين بحق الكويت قبل عقدين من الزمن.بخلاف ذلك استطاع القائد العربي الموحّد، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، إقامة الوحدة التي نسميها “وحدة الاختيار الحر” بين الإمارات السبع في ساحل الإمارات... ومازال نهجه قائماً على يد أبنائه.وأقدم اليمنيون على وحدة “توافقية” في البداية كان مأمولاً أن تستمر في نهجها لولا ما طرأ من أحداث مؤسفة فيما بعد. والحاصل أن الوحدة اليمنية تقف تاريخياً على مفترق طريق بين النهج السابق والنهج الحالي في التوحيد. والمرجو أن يغلب النهج الجديد.لكن بعض ما حدث وجوبه بالقوة يمثل مساساً غير مقبول بكيان الدولة القائمة ولم يكن مدخلاً للوحدة. والدولة أي دولة يستحيل أن تقف مكتوفة الأيدي حيال من يعمل ضدها.وكما أشرنا في مقالة قبل سنوات (أوروبا الموحدة، فعل العقل في التاريخ) فهنا عقل مسلم متحضر منفتح على ليبرالية العصر وعقلانيته استطاع أن يصنع معجزة بحجم ماليزيا الجديدة وما تمثله من أبعاد غير مسبوقة.وإذا كانت التجربة “الاتحادية” الأوروبية الجديدة تثير أشجاناً على امتداد العالم العربي، حيث استطاعت الأنظمة الأوروبية، في سبع وعشرين دولة، حتى الآن، بين ملكية وجمهورية، محافظة وثورية، أن تصنع أوروبا موحدة، فإن التجربة الماليزية الجامعة بين تراث السلطنات الإسلامية ومعطيات النظام البرلماني الليبرالي الاتحادي في الفكر السياسي المعاصر يجب أن تثير أشجاناً أعمق وأكبر على صعيد مجلس التعاون الخليجي بالذات، الذي يتحرك في الواقع إلى الأمام، لكن ببطء لا يتناسب مع حجم المتغيرات والمستجدات الإقليمية والدولية، والأهم من ذلك تطلعات شعوبه وإرادتها في التقارب والتماسك وتبادل المصالح المشتركة، كما نبه لذلك ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، في خطاب افتتاحه للمجلس الوطني البحريني في دور انعقاده الجديد.فلماذا وصل الماليزيون ولم يصل عرب الخليج؟ وعلى أهمية النموذج الماليزي، فإن النموذج الأوروبي في غاية الأهمية. ففي أوروبا إمبراطوريات تصارعت، وأمم سالت بينها أنهار من الدماء. لكنها وجدت اليوم أنها إن لم تقف موحدة، فستسقط متفرقة، وأن عليها إن أرادت البقاء أن تتقارب وتتحد في زحمة التكتلات العملاقة في عالمنا.وقد حاول عرب الخليج، في دولهم الصغيرة المطلة على البحر تحقيق “الوحدة التساعية” بينهم. ولكن ذلك لم يتحقق، إلى أن تحقق التوافق السعودي- العماني على إقامة “مجلس التعاون لدول الخليج العربية” - مثلما أصبح التوافق الفرنسي- الألماني رافعة للاتحاد الأوروبي - فانضمت تلك الدول الخليجية إلى هذا الكيان شبه الاتحادي الذي وُجد ليبقى. ويعتبر ما حققه مجلس التعاون حيوياً لو كانت الظروف طبيعية، ويكفي أن نشير إلى تأسيس الرمز العلمي الجامع بين دوله وشبابه وهو جامعة الخليج العربي بمقرها في مملكة البحرين. فهذه الجامعة الخليجية المشتركة تنهي عقدها الثالث بتطورات نوعية جديرة بالدعم والصيانة. واليوم تواجه القمة الخليجية التي ستعقد في الكويت في ديسمبر المقبل استحقاق المتغيرات الاستراتيجية في المنطقة متمثلةً في التالي، وليس من المبالغة القول إنها ستكون “تاريخية” وإن أصبح هذا التعبير من الكليشيهات المستهلكة في الخطاب الإعلامي العربي:1) اقتراب الانسحاب الأمريكي من العراق... و”الفراغ” الذي سيحدث فيه بعد ذلك. وبطبيعة الحال فالقادرون والمستعدون هم الذين سيملأونه!2) وصول تركيا بسياستها واستراتيجيتها الجديدة إلى العالم العربي وإلى منطقة الخليج، فأي دور لتركيا فيه؟ علماً أن إيران مثلاً، بين مؤشرات أخرى، اقترحت على تركيا إقامة مدينة صناعية مشتركة بينهما.3) عودة روسيا إلى سياسة المجابهة مع الغرب، واعتمادها هذه المرة على ورقة الطاقة والغاز الطبيعي الذي تملك منه الكثير. فماذا سيكون دورها المنتظر في الخليج؟4) التطورات الإيرانية المتوقعة: سلماً أو حرباً. كيف “ستتفاهم” إيران مع القوى الكبرى، وكيف سيكون التصرف “الإسرائيلي” حيالها. علماً إن مؤشرات كثيرة تدل على أن إيران ستنهج نهج المشاركة في استقرار المنطقة وتنميتها، إن اتجهت المواقف الإقليمية والدولية المختلفة هذه الوجهة. ولابد من التمييز بين الخطاب العلني والمواقف الحقيقية في التعاطي الدبلوماسي.5) الدور العربي الذي طال انتظاره، وهل سيكون بمستوى هذه المستجدات؟ وفي أقل تقدير، فإن مجلس التعاون الخليجي مطالب بأن يقوي تنسيقه وتقاربه ويصل إلى المستوى الاتحادي الفعّال، إلا أن ذلك سيتوقف على رأي المملكة العربية السعودية، أكبر أعضائه وأقواها، ومدى تقييمها لهذه المتغيرات.وأياً كان الأمر، فإن قمة “الكويت” الخليجية في ديسمبر سيكون أمامها هذا الملف المستجد الحيوي الذي لابد من مقاربته بعد وقوع عدة حروب مكلفة في المنطقة لا يحتملها جيل واحد. هذا فضلاً عن مقترح مشروع الوحدة النقدية، بين دوله الأربع الموافقة عليها، وذلك من منطلق أن أي تقارب تستطيعه بعض دول المجلس بإمكانها السير فيه، أملاً في أن تلحق البقية متى اقتنعت بإرادتها الحرة. وذلك ما هو متحقق، أو هذا ما نأمله، في مشروع السكك الحديدية من الكويت إلى عمان، وصولاً إلى اليمن.[c1]* عن/ صحيفة (الخليج ) الإماراتية[/c]
محمد جابر الأنصاري