قال رئيس الوزراء الكويتي الشيخ صباح الاحمد تعليقا على اعمال »الملتقى الأول للوقف الجعفري«، الذي تم في الكويت، أخيرا، ودعيت إليه رموز شيعية عالمية واقليمية، إن »لا فرق بين سنّي وشيعي في الكويت فكلهم كويتيون«. كم تمنيت من أعماق نفسي ان يصبح كلام الشيخ صباح نهائيا، ولا جملة اعتراضية او اضافية بعده! غير أنه ومع معرفتنا التامة بالدافع النبيل وراء مثل هذه الكلمة، فإن المقاصد النبيلة دائما ما تعرقل بنوايا اخرى... نقيضة لها. والحق أن واقع التفريق على الاساس الطائفي موجود في كل مكان من عالمنا الاسلامي، خصوصا منطقة الخليج، قبل ان يزدهر الحس الطائفي في العراق المراق على مذابح العرق والدين والسياسة. منذ القدم، ومنذ لحظة الميلاد الاول للثقافة الاسلامية، لم يستطع عقلاء المسلمين ان يحجزوا سيل الخلاف بعباءة الوفاق، فطمى نهر الخلاف على حقول الوحدة، ورش جدار الجماعة، المتحد اللون، ظاهريا، بطين الخلاف، وألوان التمايزات، التي كان الاحمر القاني سيدها، وفي بعض الاحوال الاصفر المتخفي تحت قشرة المجاملات، او القابع خلف ظهر التعب والحاجة الى التعايش الدنيوي البحت، لا التعايش المبني على الايمان العميق بحق الاختلاف، وبين الامرين فرق كبير، ومتاهات تقطعت فيها انفاس المصلحين، وحارت في سمائها القاتمة انظار الباحثين عن شمس التسامح.. من المضحك، فوق كونه من الضار، أن يعتقد انصار كل مذهب أن »الحق« الصراح، والكامل والصافي، هو هم. وأن »كل ما سوى ذاك هو ما لدى الآخر«، وأن جل ما يفعل مع هذا الآخر، إذا تنازلـ(نا)، هو تركه كما هو، دون إرغامه على الدخول في حظيرة حقي وهداي... بمنطق الاستقواء الاكثري كما ذهب احد شيوخ الاسلاميين الصحويين في السعودية في مقالة له بعنوان: »الأقلية حين تتحكم في الأكثرية«. هو تصور مضحك، لأن الحياة مليئة بالالوان، ومصدر غناها هو هذا التعدد، تصوروا لو أن كل الوجوه متطابقة تماما مع بعضها، أو لو أن الأصوات كلها بصمة واحدة، أو لو أن الرياح كلها تهب من مغرب الشمس او من مشرقها، هل ستطاق الحياة حينها؟ او بالأحرى، هل ستكون حياة حقا؟! ثم هو تصور ضار، لأن الإكراهات الدينية والطائفية دائما تسفر عن دم وألم وحقد، يبقى ولا يزول، بل ان الدم المسفوح، على مذابح الحروب الدينية، يسري في عروق المذبوح ليبث فيه عنادا اكثر، وتصلبا اعظم، واسطورة أدوم تؤمثل (من الامثولة) من وقع عليه فعل الاكراه، ليصبح مخلصا وشهيدا... وهنا يرتقي البشري التاريخي الى مصاف الالهي الأسطوري.. ما الحل إذن؟ هل نترك الفجوات المذهبية والدينية تفتك بنا، خصوصا ونحن نرى هذا الصعود المرعب للهويات »الفرعية« في عالمنا الاسلامي، هناك دورة اخرى من الذبح على الهوية تدور، وهناك حالات »اصطفاف« طائفي وديني، في العراق، بشكل بارز، وفي لبنان بشكل اكثر تخفيا والتباسا، مع الحديث عن »العقدة الشيعية« او المشكلة الشيعية كما يقول سركيس نعوم في »النهار«. وأما في الخليج فلا نعدم من حين لآخر تراشقات مذهبية، وهجائيات من الطراز البدائي. لا نريد نقش خطوط رمادية مكتئبة على رخام الواقع الجامد، ولكن لا نريد أيضا خداع الذات، ونؤكد في هذا الصدد، على ان المطلوب ليس »اذابة« الهويات في بعضها، وخلق هوية ثقافية متطابقة تعجن الهويات الاخرى المتنوعة في سحناتها او ملامحها ونبراتها وذاكرتها، المطلوب هو: »فض الاشتباك« وترك ميدان الحركة »الغلط«! نعم العراق يشهد نوعا من الحراك الضار، فيما يخص الفرز الطائفي، وكم أعجبني تعليق قارئ عراقي على مقالة الكاتب في جريدة »الشرق الاوسط« جابر حبيب جابر الذي شخص سبب التصويت الطائفي الذي من المتوقع ان يصب في صندوق الائتلاف الشيعي في العراق، الذي يمثل ملاذ الخائف »الشيعي« المتكور في حضن الهوية الطائفية، كما الشأن مع الناخب السني الطائفي مع قائمة الوفاق. جابر حبيب قال: »في ظل هذا العنف الاعمى الذي يُجاهر بافتخاره في تنفيذ التفجيرات في المساجد والاسواق لاجتثاث (الروافض)، يصبح ليس من المستغرب أن يجعل ذلك اصطفافهم وتخندقهم (الناخبين الشيعة) مع الائتلاف مصيرا وليس خيارا«. القارئ العراقي، علي الناصري من استراليا، يقول مؤيدا هذا التفسير: »أعطيت صوتي للائتلاف رغم المؤاخذات العديدة التي سجلتها عليه مدفوعا بنفس الأسباب التي أوردتها في المقال؛ وأبرزها شعوري بأنني مستهدف لهويتي وأن دمي مهدور مهما أبديت من تسامح وشفافية«. وفي الضفة الاخرى، لاحظوا نقول الضفة الاخرى!، في هذه الضفة نجد الشارع السني قد خرج في بعقوبة ومدن الغرب السني يهتف لقائمة »الوفاق« رافعا صور عدنان الدليمي وطارق الهاشمي، بعد العزوف الاول للسنة، وبعد الحديث الكثير عن تعذيب وقتل رموز سنية على ايدي عناصر شيعية متطرفة، وبعضها في الحكومة، وبعد فضيحة التعذيب في سجون »الداخلية العراقية« في حكومة الجعفري. في السعودية، عقدت، وتعقد دوما جولات حوار وطني، كان آخرها في مدينة أبها جنوب السعودية بعنوان »نحن والآخر«، تحاول هذه الحوارات ان تجمع ممثلين عن مكونات المجتمع السعودي الثقافية والاجتماعية، بهدف »ترويض« الشعور الارتيابي من الآخر المذهبي او الطائفي او الجهوي، وهي جولات مفيدة، وربما استطاعت استئناس النافرين، خصوصا مع مشاهد رأينا فيها الشيعي المعمم، حسن الصفار، تحت قبة واحدة مع شيوخ سعوديين سلفيين، ورأينا المرحوم الشيخ محمد علوي مالكي، الصوفي، بجبته المكية، بجوار الشيخ القصيمي بعباءته النجدية، وأبعد من هذا، رأينا سيدة سعودية تنتمي للطائفة الاسماعيلية، وهي تدلي بدلوها في الجولة الاخيرة للحوار الوطني منتقدة ثقافة التمييز الطائفي.. كل هذا الانهمار النقدي، صب دفعة واحدة، وكأنه كان يتنامى خلف سد التسويف وترك الأمر للزمن، طلبا للعافية وايثارا للسلامة، ووضعا للامور في مطبخ الوقت حتى ينضجها! ولكن، ومع كل هذا الحراك الايجابي، هل غادرنا فعلا المعيارية الطائفية؟ ام انها لا زالت تملك نواتها الصلبة وحضورها القوي، رغم نوايا المثقفين الطيبة او كلمات السياسيين المتفائلة؟! ما اكثر من يحشو أذنك بالحديث عن السماحة والكلام الجميل، من المثقفين او مدَّعِي التنوير من »بعض« الشيوخ، ثم تجدهم في قمة التشنج عند اول اختبار عملي لكلامهم الهلامي عن التسامح، ولذلك فوجود حوار مباشر واختبار عملي للتسامح مفيد. ولكن، ورغم هذه الفائدة العملية، إلا أن المطلوب هو شيء اكثر فعالية ودواما، شيء نستطيع ان نسميه »الهجوم« الشامل على ثقافة الانغلاق والتعصب، هجوم سياسي، وخطاب يحاصر النغمة التقسيمية، وتربية »تحارب« الطائفية، وكراهية الآخر... فقط لأنه آخر. ودوما تظل المشكلة في »التعريف«، من الارهاب الذي سيظل موضوع تعريفه خالد الخلاف، الى مصطلح »الآخر« الذي لا ندري عن صورته في ذهن كل محاور، فربما يرى البعض ان الآخر هو من يختلف معه في جزئية فقهية مغرقة، وربما يرى فريق ثان أن الاخر هو المسيحي او اليهودي او اللاديني حتى.. كل يقف، بحسب استعداده للتسامح، موقفا محسوبا من الآخر الواقف على الطرف الثاني من البساط. في هذا السياق عن الهجوم »التربوي« على ثقافة كراهية الآخر وبتر كل الصلات معه، مهما بلغت ضآلتها وعاديتها، تلقيت رسالة بالبريد الالكتروني من (يحيى) وهو قارئ نابه من الرياض، قال فيها معلقا على انتهاء جولة الحوار الوطني السعودي عن الآخر: »اليوم ذهبت لمقابلة مدرس التربية البدنية لبحث شكوى ابني من حرمانه من ممارسة الرياضة في حصة التربية البدنية بحجة انه يرتدي رقما على فانلته. ذهبت وقابلت الاستاذ وقلت له انني لن استغرب اذا لم يرتد ابني (جزمة) الرياضة لتحرمه ولكن ان تحرمه لانه يرتدي رقما فهذا هو الغريب! فقال: ان هذا تعميم صادر من الوزارة قبل 15 عاما وأنا أطبقه لأن بعض الطلاب قد يعجب بلاعب (كافر) مثل رونالدو ويضع رقمه على ظهره. فقلت له »إنني وأنا في المرحلة الجامعية كنت متأثرا بريفيلينو (لاعب برازيلي لعب في السبعينات والثمانينات مع نادي الهلال السعودي) وكنت أرتدي رقمه وطبعت صورته على فانيلتي، وها أنا اليوم مسلم مثلما كنت وعلى ما ولدت. وشرحت له أن ما من أحد في أي مجال وفي مرحلة الشباب إلا وهو معجب ومتأثر بآخر كالمتنبي في الشعر وابن تيمية في المذهب وغاندي في الفكر حتى يكبر الشاب وينضج ويبدأ في تكوين شخصيته المستقلة. ولكنه رد علي أن هذه قرارات الوزارة وهو ملتزم بها«. صدقت يا يحيى: أنت أعْجِبتَ بريفيلينو في شبابك، وربما استمع غيرك للبيتلز، أو هتف آخر لـ(الآخر) الممثل الهندي اميتاب... لكن هذا كان قبل أن تزدهر الهويات الطائفية والمذهبية من جديد، قبل ان نحتاج في أبها الى جلسات طوال من اجل ان نعرف كيف »نتحاور«، نتحاور فقط! وقبل ان يتعلق العراقي الجنوبي بأهداب السيد المعمم، والعراقي الغربي بعمامة الشيخ.. تحتاج، يا صاحبي، الى وقت آخر، حتى تعجب بريفيلينو، دون ان تشعر بالخطيئة.. او اقناع المعلم، وحتى هذا الوقت، نحن في أزمة! *كاتب سعودي
|
آراء
ضجيج الطوائف.. وقت آخر للتسامح
أخبار متعلقة