أحمد الحبيشي افردت صحف المعارضة ومواقعها الألكترونية خلال الأيام الماضية مساحات واسعة لنشر تقرير صادر عن مجموعة علاقات عامة تطلق على نفسها اسم " لجنة حماية الصحفيين الدولية " وصفت فيه أوضاع الصحافة في اليمن بأنّها تتدهور بصورة مرعبة !!. اللافت للانتباه ان معد هذا التقرير الذي أسعد صحف المعارضة كثيراً هو موظف هامشي يعمل منسقاً لتسويق المبيعات التجارية في إحدى شركات الإعلان والبرمجيات المتخصصة بأسواق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و تتخذ من باريس مقراً رئيسياً لها إلى جانب مراكز اقليمية في لوكسمبورغ وشيكاغو وسدني ، و كان قد زار اليمن بمعية اثنين من المشتغلين في مجال العلاقات العامة ، أحدهما يعمل مسوّقا للإعلانات التجارية في صحيفة بلاي بوي تصدر في ولاية شيكاغو ، علماً بأن الموظف الذي أعد التقرير اعتاد على استقبال بعض الرسائل عبر الفاكس أو البريد الإليكتروني من جماعات المعارضة في مختلف أصقاع الأرض . لاحظت أنّ التقرير اعتمد في معلوماته بصورة قطعية على شهادات من اعلاميين ومحامين ينتمون الى احزاب المعارضة المنضوية في اطار ما يسمى (( اللقاء المشترك )) ، و بوسع من يقرأ التقرير اكتشاف حقيقة ان معديه لم يطلعوا على ترجمة لمشروع التعديلات المزمع ادخالها الى قانون الصحافة والمطبوعات مترجما بلغاتهم الأصلية ، بل سمعوا كلاما مرعبا عنه في مجالس قات حزبية من معارضيه الذين يجترون كعادتهم مضامين الخطاب الإعلامي والسياسي لأحزاب المعارضة في بلادنا. حيث يلجأ هذا الخطاب دائماً إلى تقديم صورة سوداوية للـــواقع عبـر الصحـــف ، بينما يعيش قـادة احزاب المعارضة - الذين يصممون وينتجون خطابا ً كهذا، في واقع وردي آخر ويتهافتون شهرياً وفي المواسم الانتخابية أمام أمناء صناديق بعض أجهزة السلطة التي أفرطت في إفساد قادة المعارضة من خلال تعاملها معهم عبر الأبواب الخلفية للسلطة وأمناء صناديقها !!. مما له دلالة ان تقرير ما تسمى (( اللجنة الدولية لحماية الصحفيين )) افرد صفحات واسعة أدان فيها مشروع قانون الصحافة والمطبوعات الجديد، حيث بدا هذا المشروع في صورة مرعبة حقاً لمن يقرأ ما يكتبه معارضوه. وبما اني واحد من الصحفيين الذين ساهموا في اعداد قانون الصحافة والمطبوعات النافذ رقم 25 لعام 1990م حبن كنت عضوا في مجلس النواب ورئيسا للجنة البرلمانية التي تولت دراسته وتقديم تقريرها النهائي الى المجلس تمهيدا لمناقشته واقراره ، وقد كان القانون النافذ ولا يزال حتى الآن مكسباً عظيماً للديمقراطية في اليمن ، فقد قمت باجراء مقارنة بين القانون النافذ من جهة ، وبين التعديلات التي يجري مناقشتها والتشاور بشأنها حاليا قبل احالتها الى مجلس النواب بهدف اقرارها ومواكبة الاحتياجات الجديدة لتطور العملية الديمقراطية من جهة اخرى ، وبعد الانتهاء من المقارنة وقراءة تقرير ما تسمى اللجنة الدولية لحماية الصحفيين ، شعرت بالاستغراب فعلا من ان يكون الشخص الذي اعد التقرير يمثل لجنة تقول بأنّ مهمتها هي حماية الصحفيين، بينما تعارض في تقريرها الضوابط التي يضعها مشروع القانون الجديد لعضوية نقابة الصحفيين بهدف تنقية جداولها من الدخلاء والمتسللين !!. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل أنّ اللجنة استنكرت وجود ضوابط في مشروع القانون الجديد تمنع اشتغال غير الصحفيين بمهنة الصحافة !!. من المفارقات المدهشة أنّ الذين احتفلوا بهذا التقرير وأفردوا له صفحات كبيرة في صحفهم هم أنفسهم الذين يطالبون بتنقية قوائم العضوية في نقابة الصحفيين من الأدعياء والدخلاء ، وهم أنفسهم الذين يطالبون بحماية مهنة الصحافة من هؤلاء الدخلاء ومنعهم من الاشتغال بالصحافة والاساءة الى سمعتها وتقاليدها المهنية . هناك تفسيران لهذه المفارقة.. الأولى هي أنّ المعارضين لمشروع القانون الجديد لم يطلعوا عليه ، ويكتفون بمعارضته من أجل المعارضة لا غير، وربما أنّهم أيضاً لم يحرصوا على قراءة تقرير ما تسمى لجنة حماية الصحفيين الدولية ، الأمر الذي لم يمكنهم من اكتشاف حقيقة ان تقرير تلك اللجنة لا يعترض فقط على مشروع القانون الجديد للصحافة والمطبوعات ، بل يخالف مطالب الأسرة الصحفية اليمنية التي استوعبها مشروع التعديلات لجهة تنقية قوائم عضوية نقابة الصحفيين من الأدعياء والدخلاء الذين يسيئون الى شرف المهنة. التفسير الثاني هو أنّ المعارضين ربما يكونون قد أطلعوا فعلاً على تقرير لجنة حماية الصحفيين الدولية وانبهروا بتلك الملاحظات التي تخالف مطالبهم ، لكنهم استسلموا لها تحت تأثير عقدة الخواجة !!. لا ريب في ان هذه المفارقات تثير عددا من الاشكاليات التي تتعلق بتناقضات ومصاعب التحول نحو الديمقراطية في بلدان ما تسمى بالديمقراطيات الناشئة ومنها بلادنا ، مع الأخذ بعين الاعتبار الاشكاليات المعقدة التي تواجه التجارب الديمقراطية المتقدمة في البلدان المتطورة وعلى وجه الخصوص تلك التي تتعلق بالخلاف الدائر حول معايير حرية التعبير والعلاقة بين الحرية والمسؤولية وأولية الأمن على الحرية ، وهي اشكاليات خطيرة تواجه هذه الأيام بلدان ومجتمعات الديمقراطيات المتطورة وتثير انقسامات حادة في الآراء والمواقف حولها على نحو ما سنتناوله في العدد القادم . ثمّة علامات بارزة في مسار الديمقراطية الناشئة التي تشهدها بلادنا، وهي حرية التفكير وعلنية المناقشات ، بيد أنّ الحرية والعلنية غير معصومتين على الدوام من الانحراف نحو الفوضوية ، الأمر الذي يتطلب أسلوباً واقعياً في التعامل مع المنابع الفكرية والاجتماعية للميول الفوضوية في المجتمع ، بصرف النظر عن عدم تجانسها. من الخطأ الاعتقاد بأنّ الجانب الأكثر جاذبية في الفوضوية هو نزعتها المتمردة على الأوضاع والوقائع السلبية ، بل أنّ الجانب الأكثر جاذبية فيها هو ثوريتها المتسمة بالجموح الفوضوي تارة، ونفاذ الصبر ضد كل شيء تارةً أخرى. وهنا تبرز أهمية الديمقراطية في التعامل مع الجانب الأول بوصفه احتياطياً مباشراً لأيديولوجيا القفز على الواقع ، وما يترتب عليها من انحرافات انتهازية ، وضد الجانب الثاني بوصفه خطراً مباشراً على التطور الموضوعي للديمقراطية ، وتهديداً بالعودة إلى الشمولية والاستبداد. بوسعنا القول ان التحليل النقدي للانحرافات الانتهازية يقودنا إلى استنتاج هام ، وهو أنّ انتشار تلك الانحرافات بقدر ما ارتبط على الدوام بمصادرة الديمقراطية وتضييق قنواتها وتعطيل أطرها وقمع الآراء وإشاعة أجواء الإرهاب الفكري في حياتنا ، وخاصة ذلك الإرهاب الذي يمارسه المثقفون بدرجة رئيسية ، بقدر ما ارتبط الكفاح ضدها بممارسة الديمقراطية وإشاعتها وتوسيع نطاقها في حياة المجتمع بشكل عام. ما من شك في أنّ إرساء دعائم المناقشات الحرة بين مختلف الأفكار والآراء يُعد من الناحية العملية نقداً مباشراً للأخطاء التي ارتكبت في الماضي أثناء هيمنة الثقافة السياسية الشمولية والنزعات الدوغمائية المصابة بالوهن الذهني والتفكير المعلب ، والتي ارتبط وجودها بغياب الديمقراطية. يخطئ من يعتقد أنّ الحرية تعني الفوضى والقفز فوق الواقع ، كما يخطئ من يحاول درء الفوضى بوضع قيود على الحرية ، فمشاكل الديمقراطية لا تعالج إلا من خلال الديمقراطية نفسها ، وبقدر التوجه نحو ديمقراطية أوسع بقدر التوجه أيضاً نحو مسؤولية أكبر، فلا حرية من دون ديمقراطية ولا ديمقراطية من دون حماية ولا حماية من دون سيادة القانون. ولئن كانت إشاعة الديمقراطية وحرية التفكير والتعبير تساعد على التطور المستمر لأساليب العمل والبناء والمبادرات الإبداعية ، فإنّها تساعد أيضاً على أن تستند هذه الأساليب إلى قاعدة راسخة من التجديد المستمر لأساليب التفكير، وهي مهمة يستحيل تحقيقها من دون إشاعة أجواء الحرية في مجالات التفكير والعمل معاً. في هذه الحالة يمكن القول إنّ تنوع الآراء في مجرى الممارسة السياسية لا يضعف وحدة المجتمع، بل أنّه يساعد على أن تكون مهمة تطوير السياسة غير خاضعة لنخب فوقية معيّنة تحتكر بصورةٍ مطلقة الممارسة السياسية. لا ريب في أنّ الخطر الحقيقي الذي يهدد وحدة المجتمع هو ذلك الذي ينبع من افتقاد المعرفة وضياع الحقيقة وعدم القدرة على التعامل مع المتغيرات التي تحدث في الواقع والبيئة العالمية. ويتسع الخطر على هذه الوحدة حين يتم الفصل بين الرغبات والواقع مما يقود إلى تجاهل الاتجاهات الجديدة والملموسة للتطور، وما ينجم عن ذلك من إشكاليات تنشأ بفعل تحويل الأفكار إلى نصوص جامدة وتصورات جاهزة ونهائية تعيق حركة التقدم وتشوه الممارسة وتهدد الوحدة، وحدة الأرض ووحدة المجتمع ووحدة العالم !! في هذا السياق يدفع الفكر ثمناً باهظاً من جراء الإرهاب الفكري ويولد مسوخاً من الانحرافات الانتهازية في حياتنا الفكرية والثقافية ، تبدأ في أضعف حالاتها بالنصية المدرسية البليدة التي تسلب الفكر حيويته وتصيبه بالجمود العقائدي القاتل ، ثمّ تنتهي في أبشع حالاتها إلى الفوضى والانحراف. وهكذا ، يصبح الإرهاب الفكري أحد أبرز المنابع التي يعود إليها ضعف الشعور بالمسؤولية، وتكون النتيجة انسحاب المفكرين والمثقفين من ساحة المبادرات الإبداعية ، أو تدجين بعضهم، باستثناء حالات نادرة يدفع أبطالها حياتهم أو حريتهم أو سعادتهم ثمناً لحقهم في التفكير الحر وإيمانهم بحرية الاختيار.________________________ نقلا عن / صحيفة (( 26 سبتمبر ))
حرية الصحافة و عقدة الخواجة ( 2 - 1)
أخبار متعلقة