الحراك الأفقي المتبادل بين المحافظات هو حراك اجتماعي يصفه علماء الاجتماع بالحراك البناء ، وهو حراك وحدوي شهدته عدن خلال الفترات التاريخية التي صنعت منها مجتمعا مدنيا ترك لها شواهد إنسانية مثلها مثل كل المدن الحواضر في اليمن ، لكن عدن التي صدت الغزاة ومزجت الثقافات عرفت خلال الحراك الاجتماعي الصاعد احد أهم أدوارها كميناء لليمن وحاضرة للجزيرة العربية .فرغم انضواء عدن تحت الاستعمار البريطاني خلال القرنين الماضيين، وبكل ما شهدته آنذاك من انفتاح وانغلاق ، إلا إنها شكلت عقودا من التعايش الإنساني الذي ميزها عن سائر دول المنطقة في استنهاض استثنائي ترك لها نهضة اقتصادية واجتماعية مؤثرة على اليمن وجيرانها ، فلم يجرؤ الاستعمار على منع مختلف أبناء مناطق اليمن من الحراك من والى عدن رغم اقتطاعه لها كمستعمرة ووضعها داخل حدود إدارية محاطة بالمحميات لضمان عزلها عن الوطن لمدة مائة وستة وثلاثين عاما.ولتأكيد هوية ابنائها في ظل الاستعمار كثف السكان تواجدهم فيها إما لتجارة او لعمل او للالتحاق بتعليم او لنشر علوم إسلامية ، فشكلوا بذلك المجتمع المدني متعدد الثقافات بأصوله اليمنية شأنه شأن بقية المناطق المطلة على بحر العرب والبحر الاحمر ، فهذا بيت الرداعي وهذا بيت الصنعاني وهذا بيت المشرقي وهذا بيت الخولاني وهذا بيت الشحاري وهذا بيت الحضرمي وهذا بيت العريقي وهذا بيت الاغبري وهذا بيت اليافعي..وجميعهم منحدرون من خولان وصعدة ، وشبوة ولحج وعنس والمهرة وحضرموت ، والحجرية ويافع وأعالي قمم ردفان واراف وحراز ونقم ، وصحراء الجوف ومأرب وبيحان ، ووديان تعز والضالع والبيضاء ولحج وأبين ودوعن ، وسواحل المخاء والمكلا والحديدة ، وفيها اجمع التجار الميسورون على افتتاح المدارس العربية إصرارا منهم على تعميد مواطنتهم أمام احتلال بدأ مطلع القرن الثامن عشر فحول ميناءهم البسيط إلى ميناء دولي يختلط فيه العرب بالعجم ، وأحال مقرات الصيد في فضائهم المتواضع الى سوق تجارية ضخمة لتشغيل وتوسيع الميناء ، فأذاب هذا الحراك كل الالوان الثقافية في بوتقة اجتماعية واحدة ، لتنفرد عدن منذ بداية القرن الماضي بمؤسساتها المدنية والتعليمية ، فلم تكتمل خمسينيات القرن الماضي الا وكانت مدرسة بازرعة وكلية بلقيس ومعهد البيحاني ومعهد عدن والمعهد التجاري العدني والمعهد الإسلامي وثانوية البيومي وغيرها من المدارس القائمة على جهود ابنائها التي تقف جنبا إلى جنب مع مدارس الجاليات الأجنبية مثل مدارس أنجمن والبادري و”ايدن كوليج” والمدرسة الهندية والباكستانية.ورغم انتشار التعليم في عدن باللغتين وربما باللغات الثلاث الانجليزية والعربية والأردية واللهجات الأسيوية والإفريقية تحت الاحتلال، واتجاهه نحو التدريب الوسطي لخدمة التجارة العالمية والابتعاد به عن الثقافة الوطنية ، فقد اخترقت الثقافة الإسلامية واللغة العربية القادمة من زبيد وشهارة وجبلة وتريم مناهج الجاليات المقيمة والوافدة لتتغلب الثقافة العربية والإسلامية على ما عداها ، فيعزز هذا الانصهار مفهوم الأمة بمعناه الواسع حضرميا وتهاميا وجبليا وصحراويا ، ولينسحب هذا التأثير على رؤى وأهداف جيل جديد قاد الحركة الوطنية منذ الثلاثينيات نحو الاستقلال ، لينضوي تحت جناحيه الكثير ممن استطاعوا احتواء النفوذ الثقافي الأجنبي وأعادوا إنتاجه بصبغة يمنية حمل راياتها باكثير والزبيري والحكيمي والبيحاني وبامطرف وغانم الى مختلف دول العالم.عدن وحدها آنذاك التي جمعت مدن وأرياف اليمن فقها وأدبا وفنا ، فارتبط سكانها بجذور تشدهم الى أعماقها دماء ومزاجاً، فهي بوابة اليمن إلى الخارج شرقا وغربا وهي بوابتها الى الداخل جبالا وسهولا قبل وبعد افتتاح قناة السويس ، وخلال المرور المرهق عبر راس الرجاء الصالح الذي شجع على احتلال مينائها وتحويله الى محطة دولية استقدمت إليها مستوطنات بشرية كاملة ، فأصبحت عدن بانصهارهم فيها مدينة البيوت التجارية ومقراً لشركات الملاحة الدولية التي استقطبت عددا من الخبرات ومن رؤوس الأموال من كل دول العالم.وفي عدن فقط كانت معظم العلاقات الإنسانية تبنى على المصالح المشتركة وعلى التسامح الديني والانفتاح على الثقافات التي أوجدتها الضرورة ، فهذا معبد انحدر مرتادوه من دول أسيوية ، وهذا معبد يهودي انحدر مرتادوه من أصول هاجرت من أحيائها القديمة في صنعاء وتعز وعمران وصعده ، وتلك كنيسة لغير اليمنيين جاورت مبانيها الجوامع ، وهذه مساجد اشترك في تأسيسها كل الطوائف فأوقفت لها الأموال والمباني مثل جامع أبان ومدارس أنجمن إسلام ، وتلك تجمعات خاصة نشأت في بعض أطراف المدينة كان سكانها أقليات استقروا وأصبحوا جزءا من نسيج اجتماعي بمعتقداته وثقافته.وعندما أغلق الأئمة عواصم المحافظات الأخرى على صراعاتهم خلف الأسوار بما فيها من أدب وفن ، كنت تستمع في عدن وحدها إلى شعر الغناء الصنعاني والقعطبي والدان اللحجي والحضرمي ، وإلى المديح النبوي والأناشيد الدينية باللهجات اليمنية في المجالس وأكثرها لشعراء الاغاني مثل الإنسي وبامخرمة والقومندان وجمعة خان ، وفي تجمعاتها الثقافية وأنديتها الأدبية الى قصص أبو زيد الهلالي وبطولات صلاح الدين ، وكرامات ابن علوان وافضال العيدروس على عدن ، وفيها كانت الصغيرات تتسابق إلى قهوة سيدتنا خديجة ، والى (حكاوي) الجدات في سطوح المنازل وشرفاتها مشنفات أذانهن للأساطير اليمنية من قصص وريقة الحناء وبلقيس وأروى التي تحيي فيهن قيم الروح العربية والإسلامية والوجدان القومي والتراث الإنساني ، وقد لعب الفن دورا كبيرا في الثورة اليمنية فأشعلت زفرات الفضول وترانيم أيوب وصلوات محمد سعد وتسبيحات العزاني وتقاسيم احمد قاسم وشجن بلفقيه وأناشيد السمة وعطروش نيران الغضب على الوجود الاستعماري والملكي إلى الأبد.وقد اتجهت عدن في حراكها الوحدوي الصاعد منذ مطلع الخمسينات بزخمها وعنفوانها نحو قضايا محيطها العربي من محيطه إلى خليجه ، لتتصدر الصحف والإذاعة المحدودة قضايا التحرر من الاستعمار والاستبداد في اليمن ، وتقود النقابات والجمعيات الحرب ضد الوجود البريطاني والحكم الأمامي معا ، فتصبح عدن مؤسسة لنقابات العمال والأحزاب القومية ، ولتبدأ المرأة اليمنية من هِناك أولى خطوات المشاركة السياسية والدعوة الى حقوق المرأة سابقة بذلك أجيالا من النساء العربيات،فهنا رضية إحسان وفطوم الدالي وفتحية منقوش وعديلة بيومي والمناضلة دعرة وغيرهن من رموز الاستقلال التي وضعت قواعدها في عدن لتمتد مرورا بتعز حتى صنعاء التي عرفت بدورها جيلا من المناضلات من أجيال سبتمبر وأكتوبر منذ مطلع الستينات منهن حورية المؤيد وفاطمة عولقي وزينب شياذل وعاتكة الشامي .وقد ظلت عدن بوابة الحرية لليمن التي لم تعرف شمالا ولا جنوبا في تاريخها سوى فترة الاقتطاع من الوطن عندما ضيعها صراع الأئمة وتركها فريسة للقبطان “هنس” ، فحكت هندسة صهاريجها ومنعة أسوارها عن عدن قصة امرأة حكمت اليمن شمالا وجنوبا فأصبحت أثارها معلما من معالمها ، وشاهدا على عظمة سياسات أحاطت بها السيدة أروى مدنها التي امتدت من جبلة حتى نقم وشمسان ، لتكون دليلا على وحدة الوطن ورقي أساليبه الحربية والمدنية لحماية جزره وشواطئه من المهرة حتى ميدي مرورا بعدن.هذه هي عدن وهذا هو حراكها الوطني الوحيد الذي يعانق السماء ، فليس فيها من لا يريد البناء ومن لا يريد عواصم مدنية وليس فيها من لا يسعى الى ثقافة التسامح مع الاخر ، وليس فيها من لا يريد أن ينسى خمسة وعشرين عاما بعد الاستقلال عندما سلمت عدن لهواة السياسة فدفن بريقها في صراعات من الحراق لم تبق ولم تذر.. وليس فيها من لا يتذكر دموع ابنائها وهي تمسح خطايا التمزيق عندما لملمت الوحدة جراحاتها. وليس فيها من لا يشعر اليوم بالغثيان ممن يجرجرونها إلى حراك هابط يكاد يكون صورة طبق الأصل لماض اسود للتشطير.وتلك هي عدن التي أسكنتنا في حراكها الاجتماعي الصاعد وسكونها ، كشريان يتدفق فينا وفيمن أحبها ، وهي اليوم في اتجاهها نحو العصرنة مدينة تسابق الزمن بما حققته لها الوحدة وبما يملكه أهلها من وعي يرفض عودة نظام العزل والاختطاف ، وعي رفض مصادرة سنوات نضال شعب بكامله والانفراد بالسلطة وتجريد ابنائه من حقوقهم وممتلكاتهم تحت دعاوى تصفية رموز الاستعمار,وتأميم للشركات والقضاء على “الإقطاعيين والبرجوازيين” الذين لم يكونوا سوى مواطنين بسطاء ، والتي لم يتحقق لعدن منها سوى هجرة الآلاف من ابنائها مخلفين وراءهم مدينة خالية الا من المتناحرين الراغبين بتأسيس دولة يختارون لها في كل يوم اسما ، حتى امتلأت السجون واكتظت دول الجوار والمحافظات الشمالية بمن تمكن من الخروج .هذه الأساليب المفهومة خلفياتها تحت شعار الحراك الذي استعاره الانفصاليون اليوم لا تعني لنا سوى (الحراق) لتمويل الصراع وتمزيق اليمن ، وهي نفس الأساليب التي حولت سابقا منافذ الرجاع والمفاليس وطور الباحة من بوابة يومية لعدن للتزود بالحبوب والفواكه من المزارع الممتدة من التربة حتى دار سعد ومن قعطبة حتى الحبيلين ، ومن حريب حتى عتق الى مناطق تماس تفصلها براميل التشطير لتصبح عدن كلها أسيرة ومواطنوها عبرة لمن يبغض التقسيم ، اما شعار ابناء الجنوب وابناء الشمال والشرق والغرب اليوم والامس وغدا فهو حراك سياسي رافض لكل انفصالي ، كرها من ابطال الجنوب والشمال لعودة السجون تحت شعار الأصولية التي كانت بالأمس ترتكب جرائمها تحت شعارات غوغائية ، وما أشبه الليلة بالبارحة!. فالآلة الإعلامية التي أطالت زمن التشطير رعبا فحسب هي نفس الآلة ، فمن لم يعش أيامها تفزعه شواهدها الباقية من مقابر ومشانق وانتهاكات فتذكرنا بشعارات لم يفهمها احد ، فالدين كان في عصر التشطير أفيون الشعوب والعلماء كانوا في شريعته أهم أسباب التخلف ، والعاطلون منقادون بالترغيب والترهيب في زفة ابليسية لم يفهمها احد سواهم ..وعلينا أن نصدق إن أعداء الأمس هم حلفاء اليوم ، بل على الأرجح إنهم لم يكونوا أعداء قط لان الوسيلة واحدة من حروب وفتن مستنسخة والفاعل واحد لكن الفرق انه اليوم لم يعد مجهولا لكن له وجه في كل مرحلة ، وعزاؤنا ان اليمن وطن عظيم له رب يحميه وللوحدة شعب يفديها ,وعلى رأسهم أبناء الجنوب.ولا نامت اعين الجبناء!.
|
فكر
حراق أم حراك ؟
أخبار متعلقة