في ذكرى تأسيس البحوث الزراعية 2 - 2
د. يحيى عبدالله الدويلةباحث زراعي ـ فسيولوجي نبات ـ محطة أبحاث إقليم المرتفعات الجنوبية ـ تعز أما فيما يخص الإنتاج البحثي فعلى الرغم من هذا التراكم الهائل من التقارير والدراسات فإن مساهمة هذه التقنيات والتوصيات في تغيير الواقع الزراعي يعد ضئيلاً جداً وذلك لعدم شمولية هذه الدراسات فهي تركز على جانب محدود ولا تراعي الجوانب المختلفة فتأتي التقنية أو التوصيات مبتورة وهذا يعكس المستوى المتدني لتبنيها. وحتى لا نجحف في دور البحوث فإننا نقول ان الكثير من التوصيات السارية المفعول في الواقع الزراعي هي من نتاج البحوث، غير أنها وصلت إلى مرحلة من الثبات، حيث ظلت معظم الأنشطة البحثية أسيرة نفس المواضيع ونفس المؤشرات دون التجديد.وعليه فأن هناك عقبتان في توصيل التوصيات البحثية وتبني المزارع له، الأولى مرتبطة بالمزارع والثانية مرتبطة بمنهاجية العمل البحثي، فأما ما يتعلق بالمزارع فإنه ليس على استعداد لإدخال تقنيات ذات التكلفة العالية والتي تضيف له أعباء مادية، غير مكترث بما قد تدر عليه هذه التقنية من ربح إضافي. أما العقبة الثانية فتتمثل في وجود خلل في منهاجية العمل البحثي بسبب عدم دراسة التداخل او التفاعل بين العوامل المختلفة سواء الوراثية أو البيئية أو استخدام الموارد وبالتالي فعادة ما تغفل التقنية الإدارة المتكاملة للموارد فمثلاً نجد توصيات التسميد فهي لكل زمان ومكان ولكل أنواع الترب وتحت كل النظم الزراعية وكل الأصناف استجابتها للتسميد واحدة، والأصناف لا تجري عليها الاختبارات المتكاملة مثل قياس الثبات للمناطق البيئية المختلفة والإدارة المحصولية المتكاملة أو التقييم الاقتصادي الشامل والتقييم النوعي لأهم الصفات غير متوفرة في معظم الأحيان.وللأسف فإن استراتيجية البحوث المستقبلية 2006 ـ 2010م لم تعكس التوجه السياسي لمكافحة الفقر بالتركيز على ذوي الدخل المحدود، والحقيقة أن هذا النقص يعود إلى عدم الاستيعاب الجيد للجنة الفنية الممثلة للهيئة لأي أفكار جديدة تستوعب هذه الاتجاهات فهي لاتزال أسيرة للمنهاجية التقليدية بالإضافة إلى ضعف اللجنة الفنية في المتابعة والتقييم وآليات إقرار التقارير والخطط والمشاريع البحثية من خلال الاجتماعات الموسعة ومشاركة جهات لا علاقة لها بالعمل البحثي وترويج لسياسات تفتقر للواقعية بل أنها تروج لافكار خاطئة بعيدة عن المنهاجية الصحيحة. وفي هذا السياق اصبح من الضروري إعادة الخطة البحثية المتوسطة المدى 2006 ـ 2010م إلىالأقسام التخصصية والفرق البحثية والمجالس الفنية للمحطات والتي لم تناقش فيها هذه الخطة ليتم تعديلها وفقاً للمنهاجية البحثية الصحيحة، وبالتالي إخراجها بالصورة المثلى وعرضها على جهات أخرى مناسبة مثل الجامعات لتعطي رأيها العلمي في الموضوعات التي تضمنتها الخطة البحثية.الواقع أن هناك العديد من القرارات والتي كانت حصيلة سلسلة من اللقاءات سواء على الصعيد المحلي او الدولي والتي تبقى توصياتها وقراراتها دون متابعة جادة ومردود عملي ملموس وتقييم مستوى التنفيذ، بل أنها لا تعكس في الأنشطة البحثية. فمثلاً حث المؤتمر الدولي للتنمية الزراعية المستدامة والبيئة على استخدام التقنيات الحيوية لدعم التنمية الزراعية المستدامة والبيئة وضرورة الاسراع في إنشاء بنك للجينات والأصول الوراثية النباتية، غير اننا نسمع عن مقترحات مثل إنشاء مركز بحثي للتقنيات الحيوية في تعز وهو ما نؤيده بسبب توفر عدد من الظروف المناسبة مثل تواجد عدد من الكوادر يمكنها البدء في مثل هذا النشاط ولما تحتله تعز من موقع ومناخ وتنوع بيئي، لكننا لا نرى خطوات عملية في هذا الشأن.كما إن استكمال القاعدة المعلوماتية لتشخيص الوضع البيئي والطوبوغرافي تحتاج إلى وضع آليات متقدمة لتعزيز قدرات الهيئة في مجال استخدام التقنيات الحديثة مثل الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية للمسوحات المائية والغطاء النباتي وتغيراتها، وهو أمر ايضاً في بدايته الأولى.ويعود ذلك إلى سياسات بحثية تفتقر إلى الخطط الإجرائية في التنفيذ وتوفير الاحتياجات الاساسية وغياب مؤشرات قياس مدى التقدم في التنفيذ، وكان نتيجة ذلك تدني إداء المحطات البحثية، لقد انتهينا إلى وضع أشبه ما يكون بالروتين فقد أقتصر تحديد الإنجاز البحثي بتقرير سنوي يناقش في اجتماع موسع يضم اللجنة الفنية (وتمثل الإدارة الفنية في الهيئة) عدد من المرشدين والمزارعين وعادة ما تطرح ملاحظات بعيدة عن فحوى ومعاني وأهداف هذه التقارير فاللجنة الفنية لا تقرأ هذه التقارير وهذا وأضح من الملاحظات التي تطرحها والتي هي في غاية التسرع والشكلية، أما المرشدين والمزارعين فهم أبعد مدى من استيعاب أهداف هذه التقارير، وتكون النتيجة عبارة عن لملمة لمعظم التقارير، وعليه نتصور أن معالجة هذا الخلل يكمن في توسيع عضوية هذه اللجنة (غير متفرغة) لتشمل عدد من التخصصات سواءً من الهيئة أو الجامعات اليمنية لتقوم بزيادة هذه التقارير واقتصار الاجتماع السنوي على استعراض التقنيات الفنية والمخرجات البحثية ليخرج المرشد والمزارع بحصيلة يستفيد منها ويستفيد منها الباحث في التغذية العكسية لنشاطه المستقبلي.إن إدخال نظام تمويل الأنشطة البحثية شيء جميل فقد ساهم في اعطاء الباحث مرونة في تذليل الصعوبات مواجهة احتياجات العمل، لكنه لايزال هناك نقص ومزاجية في تقدير تكلفة الأنشطة البحثية والتي يتم بصعوبة تحديد قيمتها الحقيقية مما يتيح فرصة لبعض العناصر في تضخيم قيمتها بهدف رفع ميزانية النشاط البحثي، وبالتالي عادة ما يحدث خلل في تناسب تقديرات هذه الموازنات مع حجم الأنشطة البحثية.إلا أننا نخطئ أشد الخطأ إذا ما تصورنا إن ما نقصده هو قصور في تمويل الأنشطة البحثية والحقيقة أنه منذ إدخال نظام تمويل الأنشطة البحثية وأثناء عملي باحثاً زراعياً في محطة إقليم المرتفعات الجنوبية ـ تعز لم أشعر بأي قصور مالي في تنفيذ الأنشطة البحثية خصوصاً بعد إجراء بعض المرونة والتحسينات في صرف أجور عمالة وحوافز للفنيين، غير أن المسألة لا تقف عند هذا الحد، صحيح أن النظام الجديد الذي اقرته الهيئة في التمويل المباشر للباحث وتخصيص نسبة منه للمحطة أعطى ثماره في رفع مستوى التنفيذ لعدد من الأنشطة إلا أن هناك جوانب عديدة فوق قدرة وإمكانية المحطة وتحتاج إلى نفقات ضخمة مثل شراء الأجهزة الاساسية وصيانتها وغير ذلك من تجهيزات من البنى التحتية للمحطات.والجدير بالأمر أنه ليس هناك ضعف في الموارد الحكومية المخصصة للبحث العلمي طبعاً بالرغم من أن حجم الانفاق على البحوث منسوباً لإجمالي الإنتاج المحلي يعتبر ضئيلاً جداً إلا أن أعطاء أولويات لمكونات أساسية في البحث العلمي هو ما يمكن الهيئة من ترشيد موازناتها في مكانها الصحيح.وكنا نعتقد أن هناك عزوف للقطاع الخاص عن الاستثمار في مجالات البحث العلمي، لكن ما لمسناه مثلاً من استعداد مصنع السمن والصابون في تعز في تمويل مشروع لتحسين ونشر زراعة المحاصيل الزيتية، بدل هذه النظرة حيث أن غياب الهيئة العامة للبحوث في المبادرة في تقديم كل خبرتها المتراكمة وباحثيها الذين عملوا في هذا المجال للمساهمة في تسريع تحويل هذا الحلم الى واقع كان تقصيراً وأضحاً لا يضع اللوم على المستثمرين بل يقع اللوم علينا نحن وليس غيرنا، وكانت نتيجة هذا السلوك ضعف الطلب وفقدان الثقة في الإنتاج البحثي من قبل الجهات المستهدفة سواء المزارع او المستثمر ومحدودية فعالية المخرجات البحثية وتدني تمويل البحث العلمي من قبل القطاعات الإنتاجية والخدمية.يجب ان نعلم إن زيادة الطلب على البحث العلمي قد تصاعدت اليوم بسبب زيادة الحاجة لتحديث البنية الاقتصادية لكثير من الطرق والوسائل الزراعية، فالنقلات النوعية التي يمر بها العالم لا تترك لنا مجالاً كي نتمسك بالتخلف، بل أصبح مفروض علينا ان نعمل ككتلة واحدة وتعاون مشترك ليس على الصعيد المحلي فقط بل على الصعيد العربي والإقليمي من خلال المشاريع البحثية المشتركة بين الدول العربية والصديقة، فكثيراً ما نسمع عن اتفاقيات وزيارات وفود عربية ولكنها تقتصر على المستويات القيادية في الهيئة، ولا ترى النور معظم هذه الاتفاقات.مما سبق يمكن القول أنه تقع على عاتق قيادات الهيئة إصلاح منظومة العمل البحثي في ثلاثة اتجاهات اساسية الأول: هو غربلة كل الأعمال البحثية السابقة (على الأقل للفترة 1990 ـ 2005م) والتي تعتبر القاعدة المعلوماتية المتوفرة وجمعها في كتاب، لن تستفيد منه الجهات المستهدفة ذات العلاقة بل يمكن ان تستفيد من الجهات التعليمية في إعادة صياغة المناهج التعليمية، والثاني هو غربلة الكوادر البحثية في إتجاه الإنجاز البحثي في معالجة النقص في المؤهلات التخصصية والأساسية وبالتالي إعادة بناء الهيكلية الوظيفية للبحوث، والثالث هو إعادة صياغة المشاريع البحثية في إتجاه المنهاجية الصحيحة والقدرة على مواكبة السياسة الواقعية ومتطلبات التنمية والمتغيرات الدولية، وبالتالي البحث في التمويل المناسب وإعادة ترتيب منظومة العمل البحثي وآلياته وفقاً لذلك.من خلال هذه اللمحات أنتهز الفرصة في تهنئة الباحثين بعيد البحوث، وأوجه إليهم دعوة صادقة من خلال هذا المنبر بأن يحافظوا على هذا الصرح الشامخ والذي أصبح واقعاً جميلاً، والأجمل منه هو أن تدرك جميع الجهات صاحبة القرار أن مسار تطور البحوث يجب أن يستبق ويوجه مسار التطور الاقتصادي والاجتماعي للبلد. ويظل الموضوع مفتوحاً وبحاجة إلى إثراء في النقاش والدعوة موجهة لجميع الباحثين في المشاركة في أغناء هذا الموضوع وإثرائه حتى تبقى مؤسستنا البحثية دائماً في تقدم مستمر.