بقلم: د. شهاب غانمولد الشاعر الفيلسوف العلامة محمد إقبال في سيالكوت (التي تقع اليوم في باكستان) عام 1876 وتوفي في لاهور عام 1938. وينتمي إلى أسرة برهمية الأصل اعتنقت الإسلام قبل مولده بنحو ثلاثة قرون وهاجرت من كشمير إلى البنجاب. وقد ظهرت عليه مخايل النبوغ منذ مراحل الدراسة الأولى فكان متفوقاً يفوز بالجوائز. درس الفلسفة والأدب الإنكليزي واللغة العربية وحصل على البكلاريوس من الكلية الحكومية بلاهور وفاز بالميدالية الذهبية. وكان من أساتذته في دراسة الماجستير المستشرق السير توماس آرنولد الذي عمق اهتمامة بالتعرف على الأفكار والحضارة الغربية وشجعه على الدراسة في أوروبا. فدرس الفلسفة في كامبردج وحصل على البكالاريوس منها عام 1907 وكان كطالب فيها يحاول أن يصحح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام لدى زملائه، فسأله مرة أحد زملائه باستفزاز لمَ يبعثُ الأنبياء في آسيا دون أوربا فأجابه جوابا لاذعا على قدر السؤال: “لأن العالم مقسم بين الله والشيطان، ولما كانت آسيا من نصيب الله فقد كانت أوربا من نصيب الشيطان”. كما تخرج محاميا في “لنكولن إن” عام 1908 وأيضا قدم أطروحة دكتوراه في الفلسفة إلى جامعة ميونيخ بألمانيا. وقد تأثر إقبال بشكل خاص بجوته وألف كتاباً بعنوان “بيام مشرق” ردا على ديوان جوته “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي” كما تأثر بالفيلسوف الشاعر الألماني نيتشه وقدم فكرة “الإنسان الكامل” التي تخالف فكرة نيتشة عن الإنسان “السوبرمان”. وقد قال مرة عن نيتشة إن قلبه مؤمن وعقله كافر. وتأثر إقبال أيضا ببرجسون وبالشاعر الفارسي جلال الدين الرومي.كان إقبال صاحب رؤية سياسية واضحة ومن كبار الدعاة للنهضة الإسلامية وكان من أهم زعماء حزب الرابطة الإسلامية مع محمد علي جناح الذي لقبه إقبال “بالقائد الأعظم” وقد دعا إلى إنشاء ولاية إسلامية مستقلة في الهند. ولذلك فعلى الرغم من وفاته قبل استقلال الهند وباكستان بنحو عشرة أعوام إلا أنه يعد شاعر باكستان القومي ويعتبرعيد ميلاده عطلة رسمية في باكستان.وقد كتب إقبال الكثير من الشعر بالأوردية والفارسية ومن دواوينه بالفارسية “بانك درا” و”أسرار خودي ورموز بي خودي” و”بيام مشرق” و”زبور عجم” و”جاويد نامة”؛ وبالأوردية “ بانك درا” و” بال جبريل” و “ ضرب كليم” ، وتوفي وهو يكتب ديوانا بعنوان “ أرمغان حجاز” باللغتين. وكان إقبال قد نشر قصيدته (أغنية الهند) عام 1905 التي يعتز بها الهنود. وقد ترجمت بعض دواوينه إلى الإنكليزية ومنها “أسرار خودي” (أي أسرار النفس) وهو الديوان الذي ترجمه نثرا إلى الإنكليزية المستشرق نكلسون الذي كان على معرفة شخصية بإقبال، وترجمه نظما مقبول إلاهي، وديوان “زبور عجم” (أي ترانيم فارسية) الذي ترجمه نظما إلى الإنكليزية المستشرق آربري وهو الذي ترجم معاني القرآن (وقد كنت مع والدي عندما زار آربري عام 1960 في كامبردج).وقد ترجم بعض شعر إقبال إلى العربية، ومن المترجمين لبعض شعره الشاعر اليمني الكبير الشهيد محمد محمود الزبيري الذي عاش لاجئا سياسيا في عدن بين 1944 و1948 (وأذكره كطفل في زيارته لوالدي الشاعر د. محمد عبده غانم رحمهما الله). ثم عين وزيرا للتربية في حكومة إنقلاب 1948 في اليمن والتي تعرف بحكومة الدستور والتي لم تدم إلا بضعة أسابيع، لجأ بعدها الشاعر إلى باكستان وعمل هناك وتعرف إلى العلامة محمد حسن أعظمي الذي ترجم الكثير من أشعار إقبال من الأوردية إلى العربية نثرا قريبا من المعنى الأصلي فصاغ الزبيري بعض تلك الترجمات شعرا بيتيا عموديا. ومن قصيدة إقبال “أسير الحضارة” في ترجمة الزبيري:يا أسير الحضارة العصرية [c1] *** [/c] ياصريع المطامح المستحيلةإنّ فقد اليقين في الحرية [c1] *** [/c] هو شر من القيــود الثقيلـــــةوممن ترجم بعض أشعار إقبال الدكتور عبدالوهاب عزام رئيس جماعة الأخوة الإسلامية بمصر وقد عين سفيرا لمصر بباكستان عام 1950 وكان يعرف اللغة الفارسية وكانت أطروحته للماجستير عن فريدالدين العطار وأطروحته للدكتوراه عن شاهنامة الفردوسي. وقد ترجم بعض دواوين إقبال كما ألف عنه كتابا. [c1]شكوى وجواب شكوى[/c] عندما زار العلامة الباكستاني محمد حسن الأعظمي منزل والدي في عدن في الستينيات من القرن الماضي كان والدي خارج المنزل فقعدت مع الأعظمي أكثر من ساعة تحدث فيها ضمن ما تحدث عن ترجمته لقصيدة إقبال «حديث الروح» التي غنتها أم كلثوم فطارت شهرتها. والحقيقة أن الأعظمي كان قد ترجم إلى العربية نثرا قصيدتي إقبال «شكوى» و «جواب شكوى» (ضمن قصائد أخرى لإقبال) قدمهما للشاعر المصري الصاوي علي شعلان الذي أعاد كتابتهما ضمن قصائد أخرى نظما راقيا. فاختارت أم كلثوم أبياتا من القصيدتين المذكورتين جعلتها كلمات لأغنيتها التي سمتها (حديث الروح). وقصيدة شكوى كتبها الشاعر مخاطبا الله عز وجلّ وأما جواب شكوى فقد تخيل فيها الشاعر صوتا سماويا يدوي بصيحة الحق جوابا لهذه الشكوى.ولم تلتزم أم كلثوم في اختيارها للأبيات بالترتيب في القصيدتين، وهي قد اعتادت أن تتصرف بكلمات القصائد التي تغنيها ربما لاعتبارات فنية غنائية أو ربما لما كانت تحسبه مجاراة للجمهور فمثلا غيرت في قصيدة «أراك عصي الدمع» بيت أبي فراس من «بلى أنا مشتاق وعندي لوعة» إلى «نعم أنا مشتاق» وهو أمر قد لا يرضي النحويين واللغويين. وربما لأنها خافت ألا يفهم عموم الجمهور في مصر كلمة بلى ويظنونها مخففة من كلمة بلاء (أي مصيبة) مع أنني وجدت اللبنانيين يستعملون بلى في الحديث العامي وأيضا اليمنيين في بعض مناطق اليمن بالشكل الذي قصده أبو فراس. قصيدة شكوى قصيدة طويلة في 120 بيتا وتبدأ بالبيت:شكواي أم نجواي في هذا الدجى [c1] *** [/c] ونجوم ليلي حسدي أم عوديولكن أغنية حديث الروح تبدأ بأول بيت من جواب شكوى وهو:كلام الروح للأرواح يسري [c1] *** [/c] وتدركه القلوب بــــلا عنــاءولكنها استبدلت «حديث» بـ «كلام»، وأنا شخصياً أقرّ أم كلثوم على ذلك في «حديث» أكثر شاعرية في هذا الموقع حسب رأيي. وقصيدة جواب شكوى أيضاً طويلة بل أكثر طولاً من الشكوى فهي تقع في 140 بيتاً وأم كلثوم تختار لأغنيتها 26 بيتا من القصيدتين معا (أي عشرة في المئة من القصيدتين) فتبدأ بتسعة أبيات من جواب شكوى كما يلي:حديثُ الــــروحِ للأرواحِ يســـ ـري [c1] *** [/c] وتدركــهُ القلـوبُ بلا عنــــــــاءِهتفتُ بهِ فطارَ بلا جنـــــــاحٍ [c1] *** [/c] وشقَ أنينـــهُ صدرَ الفضــــاءِومعدِنـــــــهُ ترابيٌ ولكــــــن [c1] *** [/c] جرتْ في لفظهِ لغةُ السمــــاءِلقد فاضتْ دموعُ العشقِ مني [c1] *** [/c] حديثاً كـــان علـــــويَ النــداءِفحلقَ في رُبى َالأفــلاكِ حتى [c1] *** [/c] أهاجَ العــالمَ الأعلىَ بكائـي[c1] *** [/c]تحاورتْ النجومُ وقلنَ صوتـاً [c1] *** [/c] بقرب العرشِ موصول الدعاءوجاوبت المجرة علّ طيفـــــــــاً[c1] *** [/c] سرى بين الكواكـــب في خفاءوقــــال البدر هذا قلب شــــاكٍ [c1] *** [/c] يـــواصل شدوهُ عند المســـاءولم يعرف سوى رضوان صوتي[c1] *** [/c] وما أحــــراهُ عنـــــدي بالوفاءثم تنتقل أم كلثوم إلى الأبيات الأولى من شكوى التي جاءت في الأصل قبل جواب شكوى وهي تقول:شكواي أم نجواي في هذا الدجى[c1] *** [/c] ونجوم ليلى حسدي أم عوّديأمسيت في الماضي أعيش كأنما [c1] *** [/c] قطع الزمان طريق أمسي عن غديوالطير صادحةٌ على أفنانهــــــــا تبكي[c1] *** [/c] الربى بأنينهـــا المتجددقد طال تسهيدي وطال نشيدهـــا [c1] *** [/c] ومدامعي كالطّل في الغصن النـديفإلى متى صمتي كأني زهـــــرةٌ[c1] *** [/c] خرساء لــم ترزق براعة منشد[c1] *** [/c]قيثارتي مُِلئَتْ بأناتِ الجـــــــوى لابد للمكبــوت من فيضـــــانصعدت إلى شفتي خواطر مهجتي [c1] *** [/c]ليبين عنهـا منطقي ولسانــيأنا ما تعديت القناعة والرضــــــــا لكنما هي قصــة الأشجــــــانيشكو لك اللهم قلبٌ لـــــم يعش[c1] *** [/c] إلا لحمد عــلاك في الأكــــوانوكان البيت الثاني في هذه المقطوعة الأخيرة في الأصل:“صعدت إلى شفتي بلابل مهجتي” فغيرت أم كلثوم البلابل إلى خواطر مع أن بلابل المهجة أكثر شاعرية في نظري، ولعل أم كلثوم خشيت أن يختلط الأمر على العوام ببلابل الطيور أو أنها رأت الخواطر أفضل للغناء. وتتجاوز أم كلثوم بعض الأبيات في (شكوى) ثم تنشد من تلك القصيدة:من قام يهتف باسم ذاتك قبلنا[c1] *** [/c] من كان يدعو الواحد القهاراعبدوا الكواكب والنجوم جهالةً [c1] *** [/c]لم يبلغوا من هديها أنواراهل أعلن التوحيد داعٍ قبلنا [c1] *** [/c]وهدى القلوب إليك والأنظاراندعوا جهاراً لا إله سوى الذي [c1] *** [/c]صنع الوجود وقدّر الأقداراثم تأخذ المغنية الشهيرة الأبيات التالية من (جواب شكوى):إذا الأيمان ضاع فلا أمــــان [c1] *** [/c] ولا دنيا لمن لم يحي ديناومن رضي الحياة بغير دين [c1] *** [/c]فقد جعل الفناء لها قريناوفي التوحيد للهمم اتحـــادٌ [c1] *** [/c]ولن تبنوا العــــلا متفرقينـــــا[c1] *** [/c]ألــــــــــم يبعث لأمتكــــم نبيٌ [c1] *** [/c] يوحدكم على نهج الوئـــــــامومصحفكم وقبلتكم جميعـــــاً [c1] *** [/c] منـــــار للأخـــوة والســـــــلاموفوق الكـل رحمــنٌ رحيــــــمٌ[c1] *** [/c] إلـــهٌ واحــــدٌ رب الأنـــــــــاموهكذا اجتمع الشعر الرفيع والترجمة الراقية التي توفر لها مترجم عالم من أبناء اللغة الأصل ترجمها نثرا، ومترجم مقتدر من أبناء اللغة العربية نقلها إلى الشعر نظما ثم جاءت سيدة الغناء العربي فاكتمل العمل الذي طالما رددنا معه منذ عقود طويلة: قيثارتي مُِلئَتْ بأناتِ الجوى لابد للمكبوت من فيضانورددنا معه: إذا الأيمان ضاع فلا أمان [c1] *** [/c]ولا دنيا لمن لم يحي دينا
أخبار متعلقة