تتعرض الأمم في تاريخها لصدمات قوية توقظها مما تعودت عليه وتعدُّه طبيعيا وتشعرها بالمشكلات التي تعمل عملها من غير أن تتنبه إلى خطرها. وليست هذه الصدمات ضارة دائما؛ بل إنها في بعض الأحيان ضرورية لتعادل قوة العادة والمألوف على عقول الناس.وقد مثَّلت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001م حدثا صاعقا على أطراف كثيرة. وكان من نتائجه لفتُ أنظار المسلمين إلى بعض الفئات التي تتخذ من العنف المفرط منهاجا للتعامل مع الآخرين، بل إن القاعدة الأساس التي توجه هذه الفئات تتمثل في مناصبتهم بعداء جذري لا يبقي ولا يذر. وكان من نتائج هذا الاكتشاف المدفوع بتلك الصدمة أن انبرى كثير من الملاحظين إلى سبر الأسباب التي ينشأ عنها مثل هذا العنف. ووجد كثير منهم أن من أسباب هذا العنف ما تنتجه أنظمة التعليم في العالم الإسلامي بسبب تضمنها كثيرا من التأويلات والتفسيرات التي تشرِّع للعنف وتحض عليه بعد تلبيسه ببعض المفاهيم الإسلامية مثل “الجهاد”.وقد بدأ كثير من الكتّاب السعوديين في الكتابة عن مناهج التعليم في بلادنا مركِّزين على ما تتضمنه من تفسيرات وتأويلات يمكن أن يستغلها المتشددون لتسويغ العنف الذي ينتهجون وليجندوا الشباب السعودي ليكون أدوات في حروبهم ضد المخالفين، بل ضد الوطن نفسه.لكن هذا النشاط النقدي للمناهج قوبل بردود فعل صاخبة تنكِر أن يكون في “مناهجنا” ما يدعو إلى العنف. وتعدى الأمر إلى اتهام الكتّاب السعوديين الذين ينتقدون المناهج بشتى التهم التي تصل إلى حد الاتهام بالعمالة للقوى الأجنبية والتنكُّر للإسلام والثقافة الإسلامية.ولم يكن يدفع الكتاب السعوديين الذين كانوا ينتقدون المناهج بالصورة التي هي عليها إلا رغبتهم في تنشئة طلابنا وطالباتنا على مفاهيم “الوسطية” و”التسامح”، والتعامل مع المختلفين عنا بصورة لا تخرج عما يأمر به الإسلام الذي يحض على السلام والمحبة. وتتمثل أهم الحجج المكرورة التي يتذرع بها المشككون في الادعاء بأن بعض المناهج في بعض الدول، خاصة الغربية وإسرائيل، ترسم لنا صورة سلبية أو تنال من ديننا أو حقوقنا أو تاريخنا. ويرى هؤلاء أن من واجب الكتاب السعوديين المنتقدين للمناهج السعودية أن يوجهوا نقدهم إلى مناهج تلك الدول بدلا من “مناهجنا”.لكن هؤلاء يتناسون أنه لا يمكن، من ناحية أخلاقية، لهؤلاء الكتاب أن يدافعوا عن صورة دينهم وتاريخهم وشخصية أمتهم وأن ينتقدوا مناهج الآخرين حتى تبرأ “مناهجنا” نفسها من أية ملحوظات يمكن أن تؤذي الآخرين.وأعود إلى ما بدأت به من أثر الصدمات القوية في التنبيه على المؤثرات الخفية التي تؤدي إلى كثير من المشكلات التي تعاني منها الأمم. والواقع أن نظام التعليم أول ما تتنبه له الأمم التي تتعرض لمثل هذه الصدمات. ذلك أنه الأساس الذي يغرس التوجهات الثقافية ويحدد المواقف المبدئية التي تمثل البنية التحتية للشخصية الوطنية وهي التي تحكم تصرفاتها بصورة آلية غير شعورية.ولضرب الأمثلة على الأحداث الكبرى التي صعقت الناس في الغرب في خمسين السنة الماضية ونبهتهم من أسر ما تعودوا عليه ومثلت حوافز قوية للبحث عن أسباب المشكلات التي يعانون منها يمكن أن نذكر الأمثلة التالية ما يشبه الإجماع على مسؤولية التعليم، ومنه المناهج، عن هذه المشكلات:1ـ حركة الحقوق المدنية في أمريكا في الستينيات من القرن الماضي. وقد لفتت هذه المطالبات الأنظار إلى التفرقة العنصرية التي يعاني منها الأمريكيون من أصول إفريقية. وكانت أنظمة التعليم والمدارس تقوم على ترسيخ هذه التفرقة بتخصيص مدارس لأبناء الأمريكيين من أصول إفريقية معزولة عن المدارس التي يدرس فيها أبناء الأمريكيين البيض، خاصة في الولايات الجنوبية.وهذا ما جعل الرئيس الأمريكي الأسبق كنيدي يرسل الجيش لإرغام كثير من الجامعات والمدارس في الجنوب الأمريكي على دمج الطلاب والطالبات من أصول إفريقية في المدارس. ولم يثن الرئيس كنيدي عن هذا معارضة حكام بعض الولايات التي وقف بعضهم على أبواب بعض الجامعات لمنع الطلاب من أصول إفريقية من دخولها.ومما يدل على مدى تصميم الحكومة الأمريكية على هذا المسار الدمجي أن إحدى المدارس الثانوية في ولاية أركنساو ظلت خمسين سنة تحت إشراف المحكمة الفدرالية العليا في أمريكا لإلزامها بالدمج. ولم يرفع هذا الإشراف إلا في الأسبوع الماضي.2ـ ونتيجة للفزع الذي أصاب الولايات المتحدة حين أطلق الاتحاد السوفييتي أول مركبة إلى الفضاء هرع الرئيس الأمريكي آنذاك ليحث الحكومة الأمريكية على وضع برنامج تكون محصلته التفوق العلمي على الاتحاد السوفييتي في هذا المجال، وهو ما تحقق بعد سنوات قلائل. وقد تضمن إدخال بعض الإصلاحات الجذرية على التعليم العام.3ـ ونتيجة لحركات الأقليات في الولايات المتحدة في الثمانينيات من القرن الماضي عمدت كثير من الجامعات الأمريكية على التخلي عن قائمة الكتب التي تسمى بـ”الكتب الأساسية” Cardinal Books وتمثل الأدب الكلاسيكي الذي ينحاز إلى الثقافة الغربية وإلى المفاهيم التقليدية للطبقات العليا في المجتمعات الغربية وتعزز من قيمها، وهي المقررة على الطلاب في السنوات الأولى من الدراسة الجامعية، واستبدلت بها بعض الكتب التي تمثل الإنتاج المعرفي للأقليات العرقية والثقافية والنساء. ومن أشهر الجامعات التي أقدمت على هذا الصنيع جامعة ستانفورد المشهورة في كاليفورنيا التي قررت وضع القرآن الكريم على قائمة الكتب المقررة على السنة الأولى فيها.4ـ ما حدث قبل أسابيع قليلة من اعتداء لفظي ذي طابع عنصري على الممثلة الهندية المشهورة شيلبا شيتي Shilpa Shetty التي ظهرت في برنامج “الأخ الأكبر” في القناة الرابعة البريطانية. فقد أثار هذا الحادث نقاشا واسعا بلغ مستوى بعيدا من الاحتدام في بريطانيا. ولفت هذا النقاش النظر إلى أن أحد الأسباب التي تجعل بعض الناس يتفوه بمثل تلك الأوصاف العنصرية المؤذية يعود إلى عدم أداء التربية والتعليم لوظيفتهما بعيدا عن العنصرية ضد المختلفين.وأدى هذا الانتباه إلى هذه العنصرية إلى البحث عن المصادر التي تأتي منها. فقد وجدت “الوكالة الوطنية للمؤهلات والمقررات” البريطانية أن السبب يكمن في بعض ما يدرسه الطلاب من مناهج تتضمن ترسيخ هذه المواقف المخزية. ووجدت أن بعض المصادر الكبرى في الأدب الإنجليزي التي تُدرَّس في المدارس هي ما يعزز من هذه المواقف.وأستسمح القارئ الكريم في نقل التقرير الذي نشرته صحيفة الحياة في صفحتها الأولى في 23/2/2007م عن هذا الموضوع تحت عنوان: “هيئة حكومية توصي بعدم تدريس روايته “عطيل” بسبب “الغيرة الجنسية” ... إصلاح المناهج يفتح أعين الإنكليز على مخاطر “فضائحية” شكسبير”:“بعد أكثر من 500 عام من التبجيل والمكانة العالية الرفيعة في التراث الأدبي الإنجليزي، اتهم تقرير حكومي بريطاني رواية الأديب الإنجليزي وليام شكسبير “عطيل” بأنها مفعمة بـ”العنصرية والغيرة الجنسية”، بحيث إنها لا تصلح أن تدرس للتلاميذ الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و14 عاماً. وتأتي ملاحظات هيئة المؤهلات والمقررات الحكومية، بعد نحو أسبوع من إعلان وزير التعليم البريطاني آلان جونسون بدء إجراءات تهدف إلى “إصلاح” المناهج المدرسية، بهدف إزالة “الجهل والتعصب”، في أعقاب حادثة اتهامات بالعنصرية في برنامج تلفزيون الواقع (بيغ براذر) الذي تبثه إحدى قنوات التلفزيون البريطانية.وكانت “هيئة المؤهلات والمقررات” تلقت دراسة من “الوكالة الوطنية للتقويم” التابعة لها، تشير إلى اعتراض عدد كبير من المعلمين على تدريس “عطيل” للتلاميذ في سن 11-14 عاماً، وتقوم “عطيل” على شخصية النبيل مور، الذي تنهشه الغيرة بعدما أبلغه الشرير أياجو بأن زوجته ديدمونة خائنة في فراش الزوجية. وأجمع المعلمون ـ طبقاً لتقرير الهيئة ـ على أن قصة شكسبير “ناضجة وحساسة” بقدر أكبر من مخيلات التلاميذ في الفترة العمرية المذكورة. وقال كثيرون منهم إنها تتضمن عبارات جنسية اعتبروها “حاجزاً يحول دون التحليل اللغوي البنّاء”.وقال الوزير جونسون الأسبوع الماضي، إن الضجة التي أثارها اتهام ممثلة هندية بإطلاق نعوت عنصرية عليها في برنامج تلفزيوني، يؤكد “ضرورة أن تركز مدارسنا على القيم البريطانية الخاصة بالعدالة والتسامح”، وزاد: “نريد أن يتحدث العالم عن احترامنا وتقديرنا اللذين نوليهما لكل الثقافات، وليس عن الجهل والتعصب الذي تظهره شاشاتنا””.ويعد هذا المثال الأخير واحدا من أهم الأدلة على أن تغيير المناهج وإصلاحها يمثل ضرورة لنا ولغيرنا من أجل الارتقاء بالذائقة الإنسانية لدى طلابنا وطالباتنا الأبرياء بعيدا عن مزالق العنصرية والعدوانية.ولا بد أن ألاحظ في الختام أننا نتعرض الآن لصدمة لا تقل عن صدمة الحادي عشر من سبتمبر، وهي بروز الوجه القبيح للطائفية التي تحصد الآن الأرواح وتهلك مظاهر الحياة كلها في العراق. وهذا ما يجب أن يوجه الأنظار إلى فحص المناهج التعليمية لتنقيتها مما يمكن أن يربي أبناء المسلمين وبناتهم على كره المسلمين الآخرين الذين يختلفون عنهم في تأويلاتهم وتفسيراتهم للنصوص الكريمة وفي قراءتهم لتاريخهم المشترك.[c1]نقلا عن صحيفة (الوطن) السعودية[/c]
إنهم يغيِّرون مناهجهم
أخبار متعلقة