انتبهوا! هناك في منطقة الخليج شيء يبهج. هناك حركة حثيثة نحو المستقبل والتنمية. ليس الخليج فقط أصولية، وبن لادن، وسليمان بوغيث، ونساء معزولات عن الشأن العام، وغياب للمجتمعات القابلة للتعددية، وحكومات لا تطبق الديموقراطية، حسب التطبيق الغربي.هناك صورة أخرى غير هذه الصورة التي استهلكها الإعلام بسبب توارد المشكلات الخليجية، وكثافة الحديث عنها في السنوات الأخيرة، هذه السنوات التي شهدت تلاشي الكثير من المحرمات الإعلامية.لنبدأ من نقطة الأرقام والتواريخ الاقتصادية. في العدد الأخير من مجلة «نيوزويك» الأمريكية، في نسختها العربية، كتب الباحث الأمريكي أفشين مولافي تحقيقا عن «طفرة خليجية لا سابق لها تغيّر وجه المنطقة».التحقيق الذي كتبه الباحث مولافي هو خلاصة كتاب يعده زميل الأبحاث في مؤسسة «نيو أميركا»، عن منطقة الخليج، وقد قام بزيارة للمنطقة وقابل بعض القياديين فيها، ومنهم حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.حسب تقريره فإن دول الخليج «تعيش أفضل أزمنتها على الإطلاق. الأعمال مزدهرة. والنزاع السياسي أصبح ظاهرة خارجية تُشاهَد على شاشات التلفزيون المسطحة في غرف الجلوس المبرّدة في الدوحة ودبي ومدينة الكويت ومسقط والرياض».وبحسب المؤسسة المالية الدولية «سمح النفط لدول الخليج أن تجني مبالغ طائلة في الأعوام الخمسة الماضية تصل إلى 1.5 تريليون دولار» ويبدو أن الأمور ستستمر على هذا النحو: فبحلول نهاية 2007، ستكون دول مجلس التعاون الخليجي قد جنت 540 مليار دولار إضافية، وفقا للمؤسسة المالية الدولية، أي أكثر من صادرات البرازيل والهند وبولندا وتركيا مجتمعة.كل هذه القفزات ستجعل الاقتصاد الخليجي الاقتصاد الـ 16 في العالم، بحسب المؤسسة المالية الدولية «وإذا استمرت التوجهات الحالية، فمن شأن منطقة دول مجلس التعاون الخليجي أن تصبح سادس أكبر اقتصاد في العالم بحلول سنة 2030».إدموند أوسوليفان، صحافي اقتصادي غربي يقيم في دبي، يقول: «يبزغ خليج جديد، ويتحرك بصورة أسرع وأذكى بكثير مما حصل في السبعينات من القرن الماضي».وبعدما يعرج مولافي على الهواجس التي يبديها كثير من المراقبين حول الإنفاقات التي ستتجه إليها أموال الطفرة هذه، وبعدما يسجل أن دول الخليج أنفقت جانبا مهما من إيرادات السبعينات على البنية التحتية، لكن جانبا آخر أنفق هدرا، يؤكد أنه في هذه الجولة من الطفرة الخليجية تشير تقديرات المؤسسة المالية الدولية إلى أن تريليون دولار من العوائد النفطية البالغة 1.5 تريليون بقي في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث أُنفِق على الواردات أو التنمية.لكن القلق يبقى موجودا حول وجود نفقات هدرية بشكل أو بآخر، وكذلك القلق حول الإنفاق في قطاعات العقار الجديد والسياحة، لكن ما يريح هو تزايد الإنفاق على التنمية الصناعية.أبرز مثال على ذلك هو الصناعات البتروكيماوية السعودية، التي تتجه، بحسب جان فرانسوا سيزنيك من جامعة جورجتاون، إلى أن تصبح المنتج الأول للبتروكيماويات في العالم بحلول 2015.كل الأمل الذي يرجوه كثير من الخليجيين هو ان تكون الاستفادة هذه المرة من الطفرة الثانية، استفادة دائمة وممنهجة وشفافة، ويجب أن لا ننسى أن أبناء الخليج في 2007 ليسوا هم الذين كانوا في الستينات والسبعينات، لقد تعلم الكثيرون، وأجاد شبان الإمارات والسعودية والكويت.. وغيرهم، العوم في مياه «البزنس» متسلحين بذكاء أبناء الصحراء، وبشهادات وخبرات عالمية. القطاع الخاص الآن أصبح يساهم في الناتج المحلي بشكل رئيسي. وعلى سبيل المثال، هذا اكبر قطاع خاص في منطقة الخليج، وهو القطاع السعودي، قفز من الإسهام في الناتج المحلي من 10% في سبعينات القرن الماضي إلى نحو 60% .ليس هذا كل شيء، فهناك الكثير من المؤشرات على تحليق خليجي في عالم الاقتصاد الدولي، بوجود الاقتصاد السعودي «الثقيل» والمؤثر دوليا، والاقتصاد الإماراتي «العصري» و«الرشيق».لكن الصورة ليست وردية تماما، فهناك دوما أحجار وجذوع ملقاة على طريق الأمل، أحجار طالعة من الأرض، أو جذوع هابطة من الفناء الخارجي، لأشجار الجيران التي لم تجد البستاني الذي يعتني بها!هنا أختلف مع ما قاله الباحث الأمريكي أن مواطني الخليج يتفرجون فقط على مشكلات الجوار، وهم مستلقون على «الأريكةش تحت نسمات التكييف المركزي، في حين أن أرقام حساباتهم البنكية تتنامى؟!هذه صورة خاطئة، اقرب إلى صور الرحالة الغربيين عن أهل الخليج المترفين المتبلدين، التي هي صورة مطورة عن خيالات الرحالة القدماء عن الشرق المترع بالعطور والحريم والغناء والسحر.الحق أن مشكلات الجيران تلقي بسمومها ونيرانها على الخليج، أمنا داخليا، وثقافة، وتعبئة إعلامية.المشكلة أن دول الخليج تدخلت كثيرا، وما زالت، في مشكلات المنطقة، لكن لم تجن من هذه التدخلات «الوساطية» ومحاولات إطفاء النيران إلا الشوك، والتشكيك. كلنا يتذكر مبادرة الشيخ زايد من أجل ايجاد مخرج للأزمة العراقية وترحيل صدام حسين وتجنيب العراق ما جرى، ولكن العرب في مصر (مارس 2003)، بحماسة من عمرو موسى أمين الجامعة، رفضوا ذلك، فكان ما كان.وقبل ذلك مبادرة الملك فهد في قمة فاس 1982 من اجل مشروع سلام عربي إسرائيلي، وقوبلت المبادرة بالهجوم من الأشاوس العرب، والآن في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز، والذي يحظى بشعبية تجاوزت حدود بلاده، يقود المبادرات لحل المشكلات العربية، ولكن الآخرين، مثل «الإخوة» في حماس، أفسدوا المبادرة ونكثوا الأيمان.صحيح أن هذه التدخلات مزدوجة المعنى، فهي من اجل إصلاح وضع الآخرين حتى لا يؤثر خراب وضعهم على وضع الخليج، ولكن فيها أيضا بعدا آخر يتمثل في قيادة الحراك السياسي عوض ترك مقعد القيادة شاغرا لإيران أو لانفراد أمريكا به. وهذا ما أشار إليه الرئيس فؤاد السنيورة في مقالته التي نشرها في «الشرق الأوسط» الخميس الماضي، حينما ذكر أنه في حديث له مع الملك عبد الله شدد على أهمية التدخل السعودي في لبنان وفلسطين وان هذين البلدين من شأن العرب، يقول السنيورة : «ضحك جلالة الملك بوُدٍ وتسامُح وقال: لا تحتاج يا أخي للتذكير لتُبيِّن لي خطورةَ الوضع في فلسطين ولبنان. ونحن ما تأخرْنا ولن نتأخَّر ليس لأنَّ ما يحصُلُ عندكم وفي فلسطين والعراق فيه خطرٌ علينا فقط؛ بل ولأنَّ هذا واجبُنا العربي والأخلاقي».المشكلة الآن، ليست في التدخل الخليجي، فهو موجود، وهو التدخل العربي الوحيد المفيد، لأنه لا يرتبط ببرنامج آيديولوجي أو سياسي «مرهق»، بل المشكلة الآن، لدى بعض أبناء الخليج، هي في أهمية تقليل هذه التدخلات، أولا لأن الذين يتدخل من اجلهم لا يقدرون ذلك ولا يثمر هذا التدخل إلا قدحا في أهل الخليج، وثانيا لأن دول وشعوب الخليج لديها مشكلاتها الخاصة وتحتاج إلى تركيز أكثر من دول الجوار، فالأقربون أولى بالمعروف.صحيح أن الخليج، كما قلنا، مقبل على طفرة كبرى، بل هو بدأها فعلا، ولكن هذا لا يلغي النظر إلى المشكلات القائمة.. فهل يعقل أن بلدا مثل الكويت يعاني من أزمة طاقة كهربائية في الصيف! وهل يقبل أن تبقى مشكلة الفقر وعجز التعليم الجامعي عن مواكبة الطلب، في السعودية، واقتصادها هو من أكبر الاقتصادات المهمة في العالم.الخليج، هو الصورة الاقتصادية المشرقة فقط في هذا العالم العربي، والاقتصاد هو الحصان الذي يجر عربة السياسة، كما قال حاكم دبي، ولكن هذا الخليج، وفي مقدمته السعودية، بحاجة ماسة إلى خطط واليات تنفيذ ومراقبة تكفل ديمومة هذا الرخاء الاقتصادي، الأمر الذي يتطلب وقفة حازمة مع الذات، وكما قال افشين مولافي، ففي قطاع التعليم مثلا نحتاج الى تخريج عدد أكبر من الأشخاص المتخصصين في التقنيات المتطورة وعدد أقل من الخبراء في الدراسات الإسلامية. وهذا صحيح.. أليست الحاجة هي الحاكمة ؟!لا نطالب بعدم التدخل في القضايا العربية ـ والتي لا تحل في العادة على كل حال ـ ولكن نقول بجعل هذا التدخل الخليجي بحد ذاته هدفا لاخواننا العرب، لا من باب المنة والتكبر، أبدا، بل من اجل أن يصلوا إلى نقطة الإعياء والتعب من هذه المشاحنات والحروب، بالوكالة، ويصبح التدخل هنا إنقاذيا بكل معنى الكلمة.والشيء الآخر، هو إيلاء شعوب المنطقة تركيزا اكبر في إدارة عوائد الطفرة والنمو الاقتصادي، سواء من القطاع الحكومي أو الخاص، لا من خلال الصرف المباشر على شكل صدقات تجار أو إعانات حكومة الناس، بل من خلال توفير مناخ النمو الدائم: من تعليم صحيح إلى بنية قانونية شفافة ومتماسكة، إلى إعلام مهني، إلى بيئة استثمارية متكاملة.الخليج قادم، وبقوة، لو يسلم فقط من عثرات الطريق... من حجارة الأرض، وجذوع الجيران.[c1][email protected][/c][c1]---------نقلاً عن / صحيفة الشرق الاوسط[/c]
الخليج.. يُقلع !
أخبار متعلقة