في الذكرى 88 لميلاده
الكاتبة الإنجليزية آن تايلور: رغم المؤامرات على تراثه وإنجازاته..فمازالت صورته ترفع وسط حشود المتظاهرين الغاضبة داخل مصر وخارجهارغم أن عبدالناصر رحل إلى جوار مولاه منذ 35 عاما و 114 يوما.. فإن دوائر الفكر والثقافة والتحليل السياسى فى الوطن وخارج الحدود لاتزال مشغولة بالرجل وآثاره.. والرجل مآثره.. الرجل وسيرته بكل ما احتوته من عظمة الإنجاز وأيضا ومن عبرة السلبيات لا نبرئه ولا نبرئ أنفسنا.. فالبشر هم البشر فى كل زمان ومكان.. وهو أول من أدرك هذه الحقيقة التى تواكب بالضرورة.. مسيرة الاجتهاد الإنساني.. وهو القائل: *إن الشعب هو الأبقى وهو القائد وهو المعلم*. أحدث ثلاثة كتب وحسبنا فى حدود علمنا أن نشير فى سياق هذه التحية المزجاة إلى ذكرى مولده الثامنة والثمانين إلى الكتب الثلاثة التى صدرت خلال هذه الأشهر العشرين الأخيرة أصبحت بين أيدينا ونحن نوجه إليه إعزازا وإكبارا هذه السطور وقد صدرت هذه الكتب الثلاثة فى باريس وفى نيويورك وفى القاهرة. الساسة العظماء .. أول هذه الكتب صدر بالفرنسية بقلم الكاتب المؤرخ السياسى الفرنسى *جان لاكوتور* وقد نشرته دار بايار الشهيرة ضمن سلسلة تحمل عنوانا لا تخفى دلالته وهو. *.. رجال الدولة العظماء*. وتحت هذا العنوان أصدرت الدار كتابها عن *جمال عبدالناصر* حيث أحلته موضوعيا بين صفوة زعماء عصره النصف الثانى من القرن العشرين وفى طليعتهم *شارل ديجول* و*هوشى منه*.. وفى الكتاب ينقل المؤلف الفرنسى عن سياسى أمريكى كبير هو أدلاى ستيفنسون وكان مرشحا للرئاسة الأمريكية عن الحزب الديمقراطى قوله بعد لقاء مع ناصر الزعيم الشاب: هذا رجل واعد: لأنه يطرح أسئلة واستفسارات قبل أن يتطوع بتقديم ردود وإجابات. ليذكرك هذا باول انطباع تولد فى ذهن الزعيم الهندى الكبير جواهر لال نهرو لدى أول لقاء بينهما ونظن أنه كان فى باندونج ويومها قال نهرو. أول ميزات هذا الزعيم *العربي* الشاب.. إنه يريد أن يتعلم. ويرحم الله مولانا أبا النصر محمد الفارابى ت 950 للميلاد الذى وصف حاكم المدينة الفاضلة كما تصورها الفيلسوف الكبير وكان يخلع عليه لقب *رئيس أهل المدينة الفاضلة* فقال: إنه ينبغى أن يكون عالما.. متعلما. آخر العرب كتاب نيويورك الصادر فى صيف عام 2004 جاء من تأليف كاتب أمريكى من أصل عربي، هو الأستاذ سعيد أبو الريش الذى جاء فى تصدير كتابه ما يلى: إن ما نشهده اليوم فى الشرق الأوسط ما هو إلا نتيجة مباشرة لمعارضة الغرب ضد المبادئ القومية والمثل العليا العربية التى نادى بها ناصر، الذى كان يصدر عن إيمان عميق بإعلاء دولة مدنية لا عجب أن يختار الناشر الأمريكى تعريفا بموضوع الكتاب يقول فيه: إن عبدالناصر يمثل أهم زعيم للعرب فى القرن العشرين. ولا عجب أيضا أن يختار سعيد أبو الريش.. ولم يكن من مريدى عبدالناصر وربما كان من ناقديه عنوانا موحيا للكتاب هو: ناصر.. آخر العرب. وربما كان فى خيال المؤلف عنوان الكتاب الذى سبق إلى إصداره الصحفى الأمريكى الكبير سولز برغر بعنوان *آخر العمالقة* وفيه الفصل الشهير عن الزعيم ناصر ضمن بانثيون عمالقة زماننا وفى مقدمتهم ماوتسى تونج وشارل ديجول. كتاب الصحفية الإنجليزية آما آخر الإصدارات التى نقف عندها بقدر من التأمل فى هذه السطور فهو الكتاب الذى نشرته الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى شهر أبريل الماضي. عنوان الكتاب هو: .. ناصر: حياته وزمانه. مؤلفة الكتاب هى الأستاذة *آن تايلور* وهى كاتبة صحفية وعالمة باحثة إنجليزية فى قضايا وشئون الشرق الأوسط والعالم العربي، وقد عملت لعدة سنوات فى هيئة الإذاعة البريطانية ولاتزال تنشر بحوثها ومقالاتها فى دورية *ميدل إيست انترناشونال* التى تعنى بشئون المنطقة وشجونها. فى مقدمة كتابها تعبر المؤلفة الإنجليزية عن مزيج من العجب والإعجاب إزاء الظاهرة التى ترصدها وتقدمها لقارئها الناطق بالإنجليزية فتقول: إنها ظاهرة عبدالناصر الذى مازال بعد خمس وثلاثين سنة من رحيله يعد من عمالقة العالم العربي.. ولايزال الكثيرون فى دنيا العرب ينظرون إليه نقصد إلى سيرته ومناقبه ومنجزاته نظرة إعجاب عميق، خاصة فى ضوء تحديه القوى الاستعمارية وانطلاقته إلى العمل جاهدا على رفع مستويات المعيشة للمصريين من خلال تحديث اقتصاد مصر.. هذا فى حين أن هناك آخرين تضيف الكاتبة الإنجليزية يتخذون مواقف أكثر انتقادا لاسلوب الحكم الاوتوقراطى الفردى الذى اتبعه جمال عبدالناصر. ميلاده ونهاية الإمبراطوريات > آن تايلور* قدمت مادة كتابها 186 صفحة فى 7 فصول.. بدأتها بملاحظة لماحة حين رصدت لحظة ميلاد عبدالناصر 15 يناير 1918 وهى اللحظة التى واكبت نهاية عصر الامبراطوريات الكبرى التى سقطت وسط أتون الحرب العالمية الأولى وكان فى مقدمتها قوى الاستعمار العتيق على حد قول العلامة جمال حمدان مثل إمبراطورية هابسبورغ فى النمسا وإمبراطورية عثمان فى اسطنبول وإمبراطورية غليوم فى ألمانيا.. لم يبق مع مولد الفتى ناصر سوى قوى الاستعمار العتيد فرنسا فى الجزائر وأقطار المغرب وإنجلترا فى مصر وأقطار المشرق وقد شاءت أقداره أن يدخل فى صراع مع كل منهما بلغ ذروته الظافرة مصريا وعربيا فى ملحمة تأميم قناة السويس. تلك هى البيئة التى شهدت طموح مصر الفتية إلى الحرية والاستقلال.. هى نفس البيئة التى عاشتها مصر بين الحربين وبدأت تتخذ خطاها الأولى نحو تحديث حياتها وإبداع ثقافتها وفنونها والوصل بين أبنائها وبين الربع أو الثلث الأول من القرن العشرين.. هى نفس البيئة الثرية بالأفكار والإبداعات وارهاصات التجديد التى عاشها ناصر يافعا فى فترة الطلب ومراحل التكوين.. هنالك قرأ عبدالناصر طه حسين وسلامة موسى وعباس العقاد وتأثر على وجه الخصوص برواية * عودة الروح* من إبداع توفيق الحكيم، ناهيك عن مشاركته فى المظاهرات الشعبية التى ترصدها مؤلفة الكتاب فى صبر ودقة عجيبين إلى حيث يفضى بها البحث إلى يوم إنذار 4 فبراير المهين الذى قدمه مايلز لامبسون المندوب السامى للاستعمار البريطانى إلى الملك فاروق فى قصر عابدين يأمره فيه باستدعاء زعيم الوفد لتشكيل وزارة جديدة لم يتورع نفر من ساسة مصر وقتها عن وصفها بأنها *جاءت على حراب الاستعمار* فى تحليلها لإحداث وتطورات الأربعينيات تحيل المؤلفة إلى شهادات حية وكتابات ومذكرات موثوقة لرجال فى قامة خالد محيى الدين وخالد محمد خالد وأحمد حمروش، خاصة حين تعرض إلى علاقات عبدالناصر، الضابط الشاب.. الغامض الكتوم وقتها بجماعات اليمين الإخوان حسن البنا واليسار الشيوعيون حدتو ثم تتابع ناصر ورفاقه على أرض الكفاح ضد الصهاينة فى حرب فلسطين وعودتهم ساخطين على أوضاع الجيش والشعب على السواء.. وتتواصل متابعتها إلى حيث تصل بقارئها إلى لحظة الحسم صبيحة 23 يوليو 1952.. حدث الثورة. ثورة بعيدة الحدوث ومن عجب أن تصفها بأنها كانت ثورة مستبعدة الحدوث وربما بعيدة الاحتمال.. وتدعم ما تذهب إليه بأن واقع الثورة واستقرار دعائمها لم يكن أمرا ميسورا، بل ظلت الثورة على امتداد عامين وربما أكثر تواجه العديد من الصراعات والمقاومة والتشكك، وفى هذا السياق تقول مؤلفة الكتاب: لقد وجه الضباط الأحرار الضربة الأخيرة ضد النظام الملكي.. وما نجحوا إلا لأن دعائم الدولة كانت قد تداعت وتهاوت بفضل جهود الآخرين.. الذين ضمت صفوفهم قبيل الثورة جموعا من الطلبة وعمال النسيج وسائقى الترام وصغار الموظفين بل ورجال الشرطة، وكان هؤلاء قد انضموا إلى صفوف حركة مصر من أجل التحرر الوطنى وأدوا جميعا أدوارا ملموسة فى هذه العملية ولكن.. ص43 عندما أصيبت حكومات الملك بالشلل.. أصيب قادة هذه الحركة المدنية بالتردد بل وتراجعوا عن مواصلة المسير، و .. هكذا مهدوا المسرح لدخول حركة الضباط الأحرار. نبادر فنؤكد أن زعيم الضباط الأحرار لم يدخل المسرح من باب خلفى ولا على صهوة دبابة فاشستية.. لقد جاء مزودا برؤية قد نصفها موضوعيا بأنها كانت مبدئية، ولكنها كانت بنفس الموضوعية كافية بأن تتحول لحظة 23 يوليو من * انقلاب* فى تغيير شكل وعصبة الحكم إلى حيث يصبح حركة ترنو إلى تغيير جذرى فى بنية المجتمع وتطمح إلى تحولات اقتصادية اجتماعية، ومن ثم ثقافية وقيمية فى حياة المصريين.. فقراء المصريين وأوساطهم بالدرجة الأولي. ولعل هذا الملمح هو الذى دفع الأستاذة آن تايلور إلى أن تقف مليا بالتأمل العلمى عند الكتيب الدليل الذى حمل عنوان فلسفة الثورة. يتبع (2-2)