منبر وتراث
عند بزوغ أول خيط من خيوط الفجر ، وقفت ( نجمة ) على حافة شاطئ بحر صيرة, منتظرة فتاها الذي غاب ولم يعد منذ أكثر من سبعين عاما . حفر الزمان أخاديد غائرة على وجهها المستطيل النحيل الأسمر . أطلت من عينيها الصغيرتين المتعبتين علامات الأسى والحزن . هبت عليها في الصباح الباكر نسائم البحر , تذكرت وجه حبيبها الشاطر (حسن ) وابتسامته الرائعة كنور الشمس تضيء المكان . تذكرت جمالها الأخاذ الذي كان يسحر عقول وقلوب شباب صيرة من الصيادين الذين حاول كل واحد منهم أن يظفر بها كعروس له . ولكن قلبها اختارت من بين هؤلاء الشبان الشاطر ( حسن ) .الوداع الأخير كان آخر فراق أو الوداع الأخير لـ ( نجمة ) وفتاها ( حسن ) قبيل أن يغادر شاطئ بحر صيرة على متن أحدى السفن الشراعية التي ستبحر مع أول ضوء الفجر . وكان من المتوقع أن يأتي فتاها ( حسن ) بعد تلك الرحلة ليبنيا بيت الزوجية الجميل . وتوارت السفينة أحست ( نجمة ) بشعور غريب قبل أن يصعد ( حسن ) على ظهر السفينة ، بأن هذا اللقاء الذي بينهما سيكون آخر لقاء , أنه الوداع الذي لا لقاء بعده ، فانقبض قلبها فجأة ,. حاولت أن ترسم على شفتيها الجميلتين ابتسامة رقيقة أمام ( حسن ) حتى يشعر بالأمل بأن اللقاء قريب . وقفت تلوح بيديها الرقيقتين لفتاها ( حسن ) , والسفينة تتوارت شيئا فشيئا عن شاطئ بحر صيرة , ورأت ( نجمة ) السفينة نقطة صغيرة من وراء الأفق البعيد . انسابت من عينيها الجميلتين النجلاوين دموع حارة . وغرق الأملومضت الأيام والشهور والسنون , وفتاها الحبيب ( حسن ) لم يعد ، قيل لها أن السفينة التي كان على ظهرها . قد تعرضت للأنواء والعواصف العاتية , فغرقت في عرض البحر ، رفضت تصديق هذا الخبر المشئوم .. ومنذ ذلك اليوم والحزين . كانت ( نجمة ) تذهب مع أول ضوء في الصباح , وتجلس على رمال شاطئ صيرة حتى تجنح الشمس إلى المغيب ويظهر الوهج البرتقالي في الشفق البعيد , ومن ثم تعود أدراجها إلى كوخها الحقير . . وبالرغم من تعاقب الأيام والشهور والسنيين الطويلة , فإن ( نجمة ) كانت متشبثة بخيط أمل عودة أعز الناس إلى قلبها وهو ( حسن ) . ولم تتخلف ( نجمة ) في يوم من الأيام سواء في الصيف أو الشتاء . كان الانتظار أخر خيط أمل يربطها بالحياة . وتراكمت السنون الثقيلة على كتفيها , وهجم المرض على جسدها الهزيل . وفقدت بصرها .. وانزوى جمالها ونسى الناس حادثة غرق السفينة الذي ابتلعها البحر والذي حملت على ظهرها حبيب العمر ( حسن ) . نموذج في الوفاءولكن قلب ( نجمة ) لم ينس حبيبها وفتاها ( حسن ) أبدا . كانت تحس به في سواد الليل وبياض النهار ، كان وجهه الجميل يصافح خيالها ، فتشعر بابتسامته تطلع عليها كسراج منير يضيء حياتها الموحشة والبائسة وتشعر بحرارة أنفاسه وهي تدفئها في أيام ليالي الشتاء الباردة . وفي يوم من أيام الشتاء ، أختفت ( نجمة ) ابنة السبعين عاما الفاقدة البصر من شاطئ صيرة ، بحث الناس عنها في كل مكان ولكن لم يعثروا عليها حتى يوم الناس هذا .. وقيل كلا م كثير وغريب عن سر اختفائها . ولكن الشيء الذي نستطيع قوله هو أن ( نجمة ) صارت نموذجا ومثالا في الوفاء الذي تلاشى من سماء حياتنا .