مشهدنا الثقافي صورة من الاحتكار
محمود أسدأظن أنني لن أسلم من ألسنة القارئين والمتابعين، ولن أسلم من غيظ المحتكرين الذين سيسيئهم كشفي، وتزعجهم جرأتي، وهذا أمر أدركه، وأتوقعه، وأعرف أبعاده وتبعاته. ولم السكوت عن قضايا ثقافية، تقف عائقاً أمام النهوض الثقافي؟ وتشكّل حواجز ومستنقعات أمام تطورنا الذي ننشده جميعاً وندعيه. ولكنه يحتاج لوعي ثقافي عملي، نفسره قولاً وعملاً. وهذا يتطلّب جرأة في مواجهة الذات والآخرين..إن المشهد الثقافي الحافلَ بالبياضِ والسوادِ وما بينهما يعكس الواقع الاجتماعي والاقتصادي والنفسي. ويكشف الجوانب الخفية من النفوسِ والعقول. والسباحة في محيطه الواسع والعميق ليست نزهة في حي بعيد أو بلد غريب. لا عيون تلاحقنا، ولا أحد يعرفنا. بل نحن في وسطٍ معروف وبين عقولٍ متفتحةٍ قادرة على قراءةِ الآخرين والتمييز بين الأشياء.فالسكوت وإغماض العينِ في مكان الحدث وزمانه لا يعني أن الأمور تسير بشكلها الحسن. ولا تعني أن الناس بلعوا المشهد وهضموا أدواره وسكاكينه وما فيها من ترهيب وسيطرة ومصادرات.. مع خروج الحاضرين تنطلق الألسن كشفاً وتعرية وتوصيفاً وهذا ما يؤلمني. لماذا لا تكون المواجهة وإبداء الآراء في المكان والزمان ذاته؟ والمواجهة وإبداء الرأي لا تعني الحرب ولا تعني الكره والضغينة بل تعني النضج والجرأة والصدق في مواجهة الحقيقة والحدث.المشهد الثقافي ليس مغلقاً ولن يكون مغلقاً على نفسه. فإذا كانت أخبار السجون والمعتقلات وتفاصيل الاتفاقيات لا تخفى وهناك من يتبرّع بنشرها فإن أخبار الوسط الثقافي أيسر انتشاراً وشيوعاً. وما على المحاضرين والمشاركين في الأمسيات والندوات إلاَّ أن يقرؤوا حركة الأيدي والعيون وأن يلاحقوا أقوال الآخرين ليمسكوا المفاتيح الحقيقية الكاشفة لأغوار الناس.عبارة محتكر و(احتكر المواد) كانت وما زالت تثير في نفوسنا السخط والغضب من أصحابها. منذ طفولتنا عرفنا مغزى هذه العبارة وموقف المجتمع منها. وهذا ما جعلنا نقف في وجه السلبيات ونتصدى لها دون خوف ومجاملة. وهذه رسالة المفكرين والمثقفين والمتنورين. وهي رسالةٌ شبه مشلولة في وقتنا الراهن لاعتبارات وأسباب كثيرة والوسط الثقافي يعاني من أمراض كثيرة، والاحتكار الثقافي يقف في مقدمتها.أتصور أن هناك قائلاً يقول: ماذا يريد بعد هذا الكلام؟ وبعد هذه المقدمات التي حفظناها غيباً ومللنا تكرارها، وهذا أول ما كنت أتوقعه، وأحظى به. وهذا يعني أنني استطعت كشف نفسي ونفوس الآخرين، ولكن بقي أن يكشف الآخرون نفوسنا ونفوسهم دون امتعاض وضجر. ولن تعرفَ النتيجة وردة الفعلِ إلا بعد نشر المقالة وقراءتها أو بعد الحديث والتأويل لها من الموظفين مجاناً. فإذا استمر السلام وتبادل التحية، وفتح باب العتاب والحوار أكون قد كسبت فعلاً ثقافياً صافياً وراقياً. وذا صفعت بنظرات كالسهام وأحاديث كالنار أكون بذلك قد قدمت نموذجاً سائداً ومريضاً في وسطنا الثقافي. هذا الوسط الذي أحوج ما يكون إلى النقاء والصفاء.أيها المتضايق من صراحتي ومن قلمي وما فيه من وخزٍ بريءٍ! أدعوك لقراءة أسماء المشاركين في المهرجانات والأمسيات والندوات التي تجري وتقام في المناسبات القومية والوطنية وغيرها. بالتأكيد سترى تكرار الأسماء في أغلب الأحيان، وكأن الإبداع والعطاء والوطنية والقومية ولدت لهم، وانحصرت في هذه الفئة المدللة التي خصها المشرفون فشرفوها دون غيرها. ولو تابعتَ هؤلاء المشاركين لوجدتهم غائبين عن الصحف والمجلات، وفي الأمسيات الأخرى يهاجمون قصائد المناسبة والمباشرة. عجبي من هؤلاء، والأعجب من ذلك أن تجد في المنتديات الأسماء نفسها تتكرر في كل الموضوعات وكأنهم فطروا على كل المعارف. فلا يوفِّرون ندوة ولا مشاركة ولا يعرفون الاعتذار الموضوعي الذي يغفر لهم. ولذلك نرى الجمل تتكرر والفقرَ يستمر بمد بساطه على عقولنا التي راحت تمل من هذه اللقاءات التي لا تعرف روح النقاش والجدال. بل تسمع أحكاماً وجملاً مصطادة بذكاء من هنا وهناك، يا لخسارة الفكر والأدب مما يعاني، ومع ذلك نريد حضوراً ومشاركة واستقطاباً للآخرين.هذه الصور من الاحتكارات تردنا في قوالبَ وفنون لا حصر لها. وهناك من يحسن العزف عليها فصحيفة ما لم يسمع بها سوى كتابها وتحتكر النشر لهم، وتغيب كتاب مدينتها الذين نراهم على منابر وصفحات المجلات والصحف العربية بشكل بارز ومتميز. في كلِّ عدد هناك أكثر من مادة لكاتب واحد، وفي أساليب مختلفة، وهذه حقيقة والمرء الذي يداخله الشكُّ، عليه أن يتابع هذه الصحيفة وغيرها..وهناك من يحتكر الموضوعات، فلا يخرج عنها. فتراه أغلق الباب أمام كل موضوع أو فكرة لا تناسبه فلا يحرر إلا ما يراه مناسباً له لدرجة اجتياح الآخرين وإلغاء أفكارهم وإبداعهم وهذا ما يجعل الثقافة أحادية التفكير والمنهل، فتموت المواهب والأفكار في مهدها. ويضاف إلى هذا احتكار البرامج الثقافية التي يمتد عمرها مع عمر أصحابها. من عقودٍ لم تتجاوز الشارة المرسومة والمقدم والفقرات وكأنها عاهدت نفسها على الثبات. والتجديد يفرض نفسه على كل مجالات الحياة. فالتجديد يوسع الآفاق فتنبثق الأفكار، ويتجدد الهواء.. فالكثير من البرامج الثقافية في الإذاعة والتلفاز أصبحت مكررة ومعروفة، وما عادت تقدم الجديد، والأصعب من ذلك توريث البرنامج والزوايا للأبناء وربما للأحفاد من بعد ذلك. وهذا ينطبق على كثير من الصحف والمجلات التي بدت عائلية ولأهل البيت ومن يلوذ بهم. بمثل هذه الممارسات لا تنهض ثقافة ولا نطل على نوافذ الآخرين. بل هذه الثقافة تموت من بدايتها، وتنتظر موتها على أيدي أبنائها إن كانوا أبناءَها ومن صلبها.ومن القضايا الثقافية التي يبرز فيها الاحتكار بشكل سافر رؤيتنا حصر المواد والردود والملفات في فئة معينة معروفةٍ ميولها وانتماءاتها، وكأننا أمام برنامج عمل سياسي لحزب واحد. نجد ذلك في الملفات الثقافية التي تتبناها مجلاَت عريقة، ولها وجودها على الساحة الثقافية. في الملفات الثقافية والقضايا الكبرى علينا إبراز كلِّ الجوانب والآراء المتناقضة ومن كل الجهات والأهواء والدارس الفكرية، لا نقدم ما نريد ونسرب ما نسعى إليه فنعد ملفات حسب مشيئتنا وحسبَ اعتقادنا فحسب فالأبيض لا يبدو إلا من خلال السواد، والصحة لا تتوج قيمتها إلا من خلال معرفة المرض والضد بالضد يظهر وهذه دعوة للحوار وليست للخصومة.في الساحة الثقافية حالات كثيرة من نماذج الاحتكارات التي لا يستوعبها عقل ولا يقبلها ضمير مثقف. فهناك من يحظى بعنوان ثقافي لدورية ما فيخفيه عن زملائه ليكون السباق في النشر والمشاركة، وبإمكاني أن أتحدَّث طويلاً عن الأحاديث الجانبية في ترتيب طبخة ثقافية لا يعلم مذاقها إلا من يلتف حولها. فلا يذكرون شيئاً عن مسابقة أو أمسية أو جلسة خاصة ويعتبرون الكتمان سلاحهم وبحجة (التمسوا قضاء حاجاتكم بالكتمان) فأكثر من لقاء جرى في المركز الثقافي بحلب وفي غرفة مديره ومع شخصيات فكرية مرموقة لم يدع له إلا نخبة كما يدَّعون وعلم به بعد مغادرة المحتفى به سراً. الثقافة لا تعرف المناورات ولا تعترف بالأساليب الحلزونية ولا تعيش على حساب الآخرين.حديثنا عن الاحتكار الثقافي ذو شجون. فتصور مدير معهد للموسيقى يحب آلة موسيقية معينة، ويعشق لوناً جميلاً من الموسيقى الغربية والمعهد سمي بالمعهد العربي للموسيقى. هذا المدير راح يتبنى آلته الغربية ويتبنى الموسيقى والمعزوفات الغربية على حساب انحسار الموسيقى العربية وآلاتها. هذا احتكار يشوبه ضيق النظر وبعد الهدف ويدعوك للسؤال حتى يقع الشك في النوايا وما وراءَ النفوس والإجراءات..وهناك احتكار لطيف وعجيب أظن أنك عشته على طاولة أديب قد حفلت بالأدباء الذين التفوا حوله ومن مختلف المستويات. يثير القضايا التي تحتاج لحوار وتفسير، ولكنه يلقي أحاديثه ويذهب بعيداً بعيداً، ذهب إلى طاولة ثانية وهكذا. فاحتكر الناسَ والأحكامَ والوقت وصادر الآراء وذهب إلى طاولة أخرى محتكراً إعجابَ بعضهم الذين راحوا يقصون للناس مباهين بأحاديثه ولباقته وسحر بيانه.لست صياداً شريراً كما يتصور بعضهم. فأنا غيور على المشهد الثقافي الذي صار مسرحاً لكثيرٍ من الموبوئين والمرضى. بماذا تفسر قول بعض المفلسين أو الذين لم يستطيعوا تجاوز قاماتهم التي رسموها لأنفسهم: إنهم أصحاب هذه الجملة، وأصحاب هذا المصطلح..و أنهم السباقون لهذه العبارة والصورة وعلى كل من يقترب من هذه الابتكارات الخلاّقة والتي أحدثت سبقَاً عالمياً أن يشير بالبنان وبالقلم العريض لهذه (الماركة المسجلة) هذا هو الإفلاس والاحتكار القادم من وراء عقولٍ تشعر بفراغها وخوائها فظنت الإبداع جملة أو صورةً أو عنواناً فحسب. فتشوا أيا أخوتي عن مشروعٍ ثقافي وعن عمل إبداعي فكري يخدم الثقافة خيراً لكم من البحث عن حبة قمحٍ لكم في مستودعِ حبوب يدعونا للأخذِ منه..وإلى جانب هؤلاء يقف آخرون سعدوا بعبارات شفوية أو مدبجة تنصف مسيرتهم وإبداعهم وهم في أول العمر الإبداعي. دبجها لهم شعراء ومفكرون لهم سمعتهم وآراؤهم. قالوا ما قالوا على سبيل التقدير والتشجيع والإكبار معاً. ولكن راح أصحابها يجلدوننا بها على صفحات كتبهم وفي مجالسهم. تسمعها لألف مرةٍ وبألف رواية. والمؤسف أن مردديها ناموا على مجد هذه المقولات والأقوال، واستسلموا للكسل والخمول دون أن يعرفوا أن الإبداع لا يعترف بالكسل والجمود ولا يعترف إلا بالمنجز والجديد المتجدد. هي همسة عتبٍ لمن يتغنون ولا يجيدون الغناء ولا يعرفون ما يجري في هذه الساحة الثقافية المترامية الأطراف.. عليكم أن تكونوا في قلب الحدث الثقافي لتعرفوا مساركم الثقافي وما حققتم فيه.وإليكم صورةً من الصور الاحتكارية المثيرة للشغب، والتي تراها على الساحات الثقافية، يتوزع الأدوار فيها فريق أحسن التنظيم وتوزيع الأدوار فاحتكروا الحديث واحتكروا الصوت المرتفع المهاجم، واحتكروا مصادرة الآراء بطغيان صوتهم على الآخر الذي أدخلوا الرهبة والخوف في صدره. بأسلوبهم هذا احتكروا مدير الندوة أو الجلسة. فراح يجاملهم ويلاطفهم ويعزف على آلاتهم وأفكارهم إذا لم يكن ضمن فريق العمل الموحد. فمع الزمن تراهم احتكروا المنابر والآراء، فراحوا يصدرون معلباتهم من مستودعاتهم المليئة بالأفكار والهلوسات دون معارض لهم أو مجادل.ومن الاحتكارات اللافتة في المهرجانات الشعرية احتكار عريف المهرجان أشعاره وهو يقدم الشعراء. فلو جمعت الوقت الذي قدم فيه الشعراء لوجدته أكثر من وقتهم جميعاً. فبين الشاعر والشاعر أمسية له فقد احتكر أوقاتنا وأوقات الشعراء المشاركين ناسياً مهمته الأساسية.إن شريط الاحتكارات حلقاته كثيرة كمسلسلاتنا التي لا تنتهي إلا بموت البطلِ أو زواج العشيقين. وهو مسلسل مقلق ومزعج وفيه منغصات فإني أبحث عن احتكارات إيجابية بعيدة عن الأنانية وقريبة من نفوس الآخرين التواقين لمشهد ثقافي نقي ومعافى.