قصة قصيرة
كانت الشمس تنحدر من الأفق كدمعة حمراء ذرفتها سماء ذلك اليوم... وشبح شاب قد حفر الزمن أخاديد بوجهه النحيل الأسمر ويديه القويتين التي شق الزمن وحفر فيها أخاديده متكئاً على لبنة بردين ويفترش قطعة كرتونٍ يقتات بضعة وريقات قات وهو ساهٍ عيناه تحدقان في أفق غطى عليه الغروب وذرف آخر دمعة ذلك اليوم .. الكئيب.سعيد القدسي غدت الحياة عنده أياماً تمضي مبرارتها لم يعد يهمه شيء سوى تكاليف أنّه ما زال يتنفس الصعداء بعد أن ذوت آماله وهي في مهدها.. ما زالت رؤوس ذكريات الأيام الخوالي تظل برؤوسها في رأسه الذي لمع برق المشيب فيه مبكراً.. سعيد الذي يبدو في الستين وهو ما زالت في السابعة والعشرين ربيعاً..!!سعيد كان سعيداً حين كان زينة وصفوة أبناء القرية وأجلهم ذكاء وأطراهم وأجملهم عوداً لم يأبه للتعب ولضنك العيش وهو يصعد جبلاً ويشق ثلاثة أودية ليصل إلى مدرسة المركز ليروي عطشه ويغذي أمله بأن يكون ذا شأنٍ أسوةً بابن أحمد القدسي الذي أصبح دكتوراً يُشار إليه ببنان الفخر.وما زاده شغفاً وانتظاراً لصباح كل يوم للسفر وتجشم الصعاب هو رؤيته لصباح ذات السادسة عشرة ربيعاً فلقة بدر ودل ولين وعين مها ونظرات خجلى وهي تحمل جرة الماء وهي ذاهبة أو آيبة من نبع ماء القرية، وحين كان يراها تتسمر قدماه ويحس بوجيب قلبه ونبضه يزداد وكأنّه عصفور ضاق من صدره ويود الانطلاق إلى عشه الأمين صباح فلقة البدر وزينة بنات القرية، وكان يحييها برعدة ولهفة وشوق، فترد عليه هامسة وبطرف عينيها وبخد كسته حمرة الخجل وتخفَّ الخطو فيمتزج خطوها مع نبض قلبه ويرقبها حتى تغيب في ثنايا نجد القرية وشعابها ، ثم يواصل رحلته ورشفة الماء التي ارتشفها من جرة ماء صباح كأنّها غذاء الحياة لعروقه وطيفها الجميل لا يفارق مخيلته فيؤنس بها نفسه في وحشة ذلك الجبل وشعاب النجد ووهاد الوديان حتى يشرف على المركز ويصل إلى مدرسته.كانت العادة قد أصبحت إدماناً لذيذًا وتسلل إلى قلبه شغف وحب لصباح فلم يطق يوماً من دون أن تكتحل عيناه بطلتها.. وكانت صباح مثله ظهر ذلك من ساعة قلبها لجلب الماء التي وافقت ساعة قلب سعيد في رحلته اليومية. تلك..!!في ذات يومٍ تعثرت صباح فرآها وهو ساهٍ هائم وجدًا بها، فلم يشعر إلا وهو يمسك بيدها.. فارتبكت ومالت حتى سقطت الجرة عليه.. فكان أروع وأحلى دش ناله في حياته.. حين غدرته عيناها ونبست هامسة _ سامحني لو سقعتك .. يا سعيد .. سامحني.- ما عليك لوم.. المسألة بسيطة .. بسيطة... وضحك سعيد منتشياً بذلك الموقف اللذيذ والطريف.- أما صباح فعادت إلى النبع وهو يرمقها بنظرات ولهفة وشوق وحرارة دفأته من صقيع الشتاء والدش البارد.. الحلو الذي ناله..!!وفي ذات يوم هيمن شبح الشؤم عليهما.. حين مرَّ ابن الشيخ مختالاً على بغلته على نبع الماء وبضعة نسوةٍ وفتيات حوله وكانت صباح تملئ جرتها وقد شمرت عن ساعدين ناعمين بضين أبيضين وقد تحدر الخمار عن شطر من فلقة البدر (وجهها) وانسدلت أطراف خصلات شعرها من تحت الخمار.. وهي منشغلة يملئ جرتها ولا تعلم أنّ عيناً نهمة وجوعاً وحشياً يلتهمها آنذاك..!!وفي ذات صباح انصدم سعيد بصاعقة غياب صباح عن طريقه طريق نبع الماء، انتظرها دون جدوى.. ضاقت عليه الطريق وشمخ الجبل وأسودت الوديان والطرق أمامه ومهل المدرسة متعثراً متأخراً، واندهش معلموه من سوء حاله ودرجاته ذلك اليوم الذي مرّ عليه كئيبًا موحشاً.. وعاد إلى القرية وهو يتوجس خيفةً وقلقاً.في القرية خبر عقد ابن شيخ القرية على صباح التي أسودت الدنيا في عينيها وقاومت ما استطاعت لكن شيخ القرية كان قد رضخ لرغبة ابنه المدلل وهدد أبا صباح بسحب الأرض منه لو رفض طلبه وتنازله له وهو العبد الأجير في أرض الشيخ..!! عقد القران وأقيم الفرح الميتم عند صباح وسعيد الذي انفطر قلبه وضاقت به الدنيا.. ذوى جسد صباح ومثله جسد سعيد فلم تذق طعم الراحة والسعادة ضاق ابن الشيخ بذلك الحال.. وهددها بقتلها وقتل سبب إعراضها عنه لو عرف _ مرت الأيام وئيدة كئيبة حتى ذات مأساة يوم حين وجدوا جثة طافية على ماء بئر الوادي، كانت صباح.. ولم تمر سوى بعدد الأصابع من أيام أخرى إلا وسعيد في عدن يعمل حمالاً في دكة المعلا.. غرقت أحلامه أو أغرقت ووئدت مع صباح، ولم يعد له إلا تكاليف أنّه ما زال حياً لكنه شبح مأساة دون روح شاب ولكن فيه قد شاب المشيب..!!عبدالفتاح العودي