رحيل رائد القصيدة النثرية
نجوى عبدالقادران الحديث عن الشاعر الراحل محمد الماغوط يدفعنا للحديث عن التجارب الأولى في كتابه القصيدة النثرية، هذه المحاولات الرائدة للخروج عن أنظمة الشعر العربي وأوزانه بعد ان تحقق النجاح لبعض الشعراء العرب في كتابة قصيدة التفعيلة أو "الشعر الحر".أما القصيدة النثرية فقد ارتبطت بصدور مجلة "شعر" عام 1957م والتي كان مؤسسوها يكتبون قصيدة موزونة تعتمد وحدة التفعيلة في بنائها الموسيقي، ولم تكن لهم أية نظرية شعرية سوى ما جاء في محاضرة ليوسف الخال من أنهم يتبنون جميع الاتجاهات الشعرية.والمقياس الوحيد عندهم ـ أي جماعة تحرير المجلة ـ ارتفاع الأثر الأدبي إلى مستوى فني لائق، وكثر حديثهم حول مستقبل الشعر في لبنان، وإن ذلك رهن بقيام شعر طليعي تجريبي.وحفل العدد الثالث من هذه المجلة بإشارات إلى "التجريبية" و" المغامرة" والذي يفهم من جميع ما طرحه تجمع مجلة شعر والمقربون إليهم أنهم كانوا يعتقدون ان الانجازات التي حققتها حركة الشعر العربي منذ عام 1947 حتى ذلك الحين لم تكن كافية، وان الشعر مايزال مكبلاً ببعض القيود.وجاء في مقدمة عدد مبكر من المجلة "ان الشعر تجربة كيانية فريدة وان التعبير عنها يجب أن يتم بتحرر تام من تاثير القوالب التقليدية الموروثة والقواعد الموضوعية غير أن فكرة التحرر التام من تلك القوالب لم تتبلور وتتضح إلا في شتاء عام 1958م حيث أقامت مجلة "شعر" أمسية لمحمد الماغوط قرأ فيها بعض نماذجه فاثار الإعجاب ودار حولها وحول التسمية التي تستحقها نقاش واسع.لقد كانت تلك الأمسية بمثابة اعتراف من لدن تجمع شعر بشعرية هذه النماذج وتكريسه، وقد رافقت هذه الأمسية وتلتها حملة دعائية صاخبة اتخذت من مجلة شعر وندوة خميسها ومن الصفحة الأدبية في جريدة "النهار" التي يحررها أنسي الحاج ومن صفحات أدبية في صحف أخرى منابر لها.وهنا يمكننا اعتبار محمد الماغوط الشاعر السوري الذي رحل عن سماء الشعر والمسرح من أبرز الثوار الذين خرجوا بالشعر عن إطار الشكل.. واتخذوا من قصيدة النثر وسيلة للتعبير عن إحساسهم وما في أنفسهم من حزن أو فرح.. وجاءت قصيدة النثر هذه كشكل مبتكر وجديد وحركة رافدة لحركة الشعر الحديث أو " الشعر الحر".تقول زوجة الشاعر سنية صالح في مقدمة لأول أعماله الكاملة: "كانت الرياح تهب حارة في ساحة الصراع، والصحف غارقة بدموع الباكين على مصير الشعر حين نشر قلوعه البيضاء الخفاقة فوق أعلى الصواري، وقد لعبت بدايته دوراً مهماً في خلق هذا النوع من الشعر، إذ أن موهبته التي لعبت دورها باصالة وحرية كانت في منجاة من حضانة التراث وزجرة التربوي، وهكذا نجت عفويته من التحجر والجمود وكان ذلك فضيلة من الفضائل النادرة في هذا العصر".كما نلاحظ في كلام زوجة الشاعر (المتوفاة عام 1985م) تبريراً لهذا الخروج الذي اتخذه محمد الماغوط عن شكل القصيدة العربية وهو كغيره من الشعراء المعدودين في كتابة القصيدة النثرية آنذاك إلا أن بعض هؤلاء الشعراء كانت لهم محاولات في مجال القصيدة بشكل التفعيلة التي كانت قد سبقت قصيدة النثر التي ظهرت في عام 1967م أي ان الشعر الحر كان قد سبق القصيدة النثرية بعشرة أعوام ناهيك عن المحاولات الأولى التي سبقت نازك الملائكة وبدر شاكر السياب..ولم تحقق قصيدة النثر النجاح الذي حققته قصيدة التفعيلة او الشعر الحر.. ولهذا نجد ان هؤلاء الثوار الذين حرروا الشعر لجأوا إلى كتابة المسرحية وكان محمد الماغوط من أوائل شعراء القصيدة النثرية الذي أبدع في مجال المسرحية وذلك من خلال أعماله التي قدمت كعمل مسرحي لمسرحيته "المهرج"، "غربة" "كأسك ياوطني" "شقائق النعمان" "العصفور الاحذب".. وان كانت المسرحية الأخيرة لم يعترف بها لأسباب فنية.. وفي عام 1973م ظهرت أول الأعمال الأدبية الكاملة لمحمد الماغوط عن دار العودة ـ بيروت ـ وهي تضم ديوانه الأول "حزن في ضوء القمر" وديوانه الثاني "غرفة بملايين الجدران" ثم ديوانه الثالث "الفرح ليس مهنتي" وتختم أعماله الكاملة الأولى مسرحية "العصفور الأحذب" و"المهرج".[c1]نماذج من شعره[/c]من قصيدة "حزن في ضوء القمر": أيها الربيع المقبل من عينيهاأيها الكناري المسافر في ضوء القمرخذني إليهاقصيدة غرام أو طعنة خنجرفأنا متشرد وجريحأحب المطر وانين الامواج البعيدة ***********دمشق ياعربة السبايا الورديةوانا راقد في غرفتيأكتب واحلم وارنو إلى المارةمن قلب السماء العاليةاسمع وجيب لحمك العاريعشرون عاماً ونحن ندق أبوابك الصلدة..والمطر يتساقط على ثيابنا وأطفالناووجوهنا المختنقة بالسعال الجارحتبدو حزينة كالوداع صفراء كالسلورياح البراري الموحشة.تنقل نواحناإلى الأزقة وباعة الخبز والجواسيسونحن نعدو كالخيول الوحشية على صفحات التاريخ.ترك محمد الماغوط بلدته الصغيرة "سلمية" إلى دمشق ثم إلى بيروت التي لقي فيها ملاذاً آمناً ليبث فيها ما في نفسه من حب وهموم وشجون وهو كغيره من الشعراء الذين اتخذوا من بيروت مدينة ينشرون فيها أقوالهم الشعرية التي ظلوا زمناً يكتبونها ـ وكانت بيروت نافذة الشرق إلى العالم:طفولتي بعيدة.. وكهولتي بعيدة..وطني بعيد.. ومنفاي بعيدأيها السائح اعطني منظارك المقربعلني ألمح يداً.. أو محرمة في هذا الكون تومئ إليصورني وأنا ابكيوانا اقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق وأكتب على قفا الصورة:هذا شاعر من الش[c1]ومن قصيدة "سلمية" [/c]سلمية: الدمعة التي ذرفها الرومانعلى أول اسير فك قيوده بأسنانهومات حنيناً إليهاسلمية: الطفلة التي تعثرت بطرف أوروباوهي تلهو باقراطها الفاطميةوشعرها الذهبيوظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحيندميتها في البحروأصابعها في الصحراء *********************في كل حفنة من ترابهاجناح فراشة أو قيد أسيرحرف للمتنبي أو سوط للحجاجأسنان خليفة، أو دمعة يتيمزهورها لا تفتح في الرماللان الأشرعة مطوية في براعمهالسنابلها أطواق من النملولكنها لا تعرف الجوع أبداًلان أطفالها بعدد غيومهالكل مصباح فراشة ولكل خروف جرسولكل عجوز موقد وعباءةولكنها حزينة أبداًلان طيورها بلا مأوى