قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن
محمد زكريافي مؤتمر برلين سنة ( 1878م ) الذي ضم العديد من القوى الأوربية فرنسا ، ألمانيا ، إيطاليا وعلى رأسها إنجلترا ، قررت الأخيرة التخلي عن سياسة الحفاظ على تركة الشيخ المريض أي السلطنة العثمانية . وكان ذلك القرار الخطير لسياسة إنجلترا عواقبه الوخيمة على اليمن وتحديدًا على جزره اليمنية . ما شجع إيطاليا في التفكير الجاد الاستيلاء على جزيرتي زقر ، وحنيش التين كانتا من ضمن الممتلكات العثمانية . وأمّا ألمانيا القيصرية التي كانت تربطها بعلاقات ودية بالسلطنة العثمانية ، فإنها كانت ترى أنّ يكون لها موطئ قدم في بعض الجزر اليمنية بحجة تأسيس محطة فحم لتموين سفنها في البحر الأحمر المتجهة إلى الشرق الأقصى ، وجزر المحيط الهادي ، وأمّا فرنسا ، فقد أسست لها مستعمرة في أبوخ أو( أبوك ) على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر ( جيبوتي حاليًا ) قبالة الساحل اليمني وكانت تخشى إنجلترا أنّ تتغلغل نفوذ فرنسا إلى هذه المنطقة .[c1]إريتريا المستعمرة الإيطالية[/c]خرجت إيطاليا من مؤتمر برلين عام ( 1878م ) صفر اليدين ـــ على حد تعبير الدكتور سيد مصطفى سالم ــــ في الوقت الذي رأت فيه إنجلترا تبسط نفوذها القوي على الساحل الأفريقي للساحل الأفريقي وتتبعها فرنسا ، وألمانيا. كل تلك العوامل أثارت حفيظة الإيطاليون وخاصة أنّ الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي عصفت بإيطاليا من جراء الحروب الأهلية الدامية التي خاضتها بسبب تأسيس الدولة الإيطالية الموحدة سنة ( 1871م) بعد أنّ كانت إمارات ومدن مفتتة . ولقد رأى الإيطاليين أنّ تأسيس مستعمرة في الساحل الأفريقي للبحر الأحمر سيؤدي إلى حل الكثير والكثير جدًا من مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية وأنّ الحل الحاسم لهذه المسألة هي تأسيس مستعمرة في الساحل الأفريقي للبحر الأحمر علاوة على ذلك أنّ تكون هذه المستعمرة بمنزلة منفى للمجرمين . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : « وكانت إيطاليا ـــ مثل غيرها ـــ ترى في الاستعمار حلاً لكثير من مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية ، بل ومنفى للمجرمين الذين اكتظت بهم سجون إيطاليا نتيجة كثرة المشاكل التي ظهرت بعد حروب الوحدة وأثنائها « . وكيفما كان الأمر ، فقد تمكنت إيطاليا بعد مناورات سياسية ضد مصر والسلطنة العثمانية وتأييد من إنجلترا التي أعطت لها الضوء الأخضر ـــ للوقوف معها في المحافل الدولية من جهة وأنّ تصمت إزاء إحتلالها لمصر سنة ( 1882م ) ـــ بتأسيس مستعمرة في عصب سنة ( 1890م ) أطلقت عليها إيطاليا ( إريتريا ) تيمنًا بالاسم اليوناني القديم . [c1]وإيطاليا وأطماعها في اليمن[/c]والحقيقة كانت إيطاليا بعد وحدتها تمتلك أحلام طموحة أو قل مشاريع استعمارية عريضة فبعد أنّ تحقق لها تأسيس مستعمرة إريتريا في الساحل الأفريقي للبحر الأحمر . وجهت شطرها نحو الساحل الآسيوي للبحر الأحمر وتحديدًا الساحل اليمني وحزيرتي زقر ، وحنيش . ولقد مهدت إيطاليا للدخول إلى الساحل اليمني والسيطرة على جزيرة زقر ، وحنيش وذلك عن طريق البعثات الأثرية أو بعبارة أكثر وضوحًا عن طريق الرحالة الإيطاليين الذين زاروا اليمن . وفي سنة 1870م قام الرحال الإيطالي ريتزو مانزو بجولة في اليمن , وبعدها زار تاجر الآثار الإيطالي اليهودي موسى شابيرو اليمن سنة ( 1878م ) . ويبدو أنّ الرحالين الإيطاليين ، قد قدما تقريهما إلى الحكومة الإيطالية في روما حول الأوضاع والظروف السياسية والاجتماعية بصورة عامة في اليمن من ناحية وسواحلها وبعض جزرها بصورة خاصة من ناحية أخرى ومن المحتمل أنّ تقريريهما ، كانا يحملان في طياتهما أمور مشجعة للإيطاليين للسيطرة على السواحل اليمنية واتخاذ بعض الجزر اليمنية محطات تجارية لهم . وعلى أية حال ، فقد صار لإيطاليا وكالة تجارية لتصدير البُن إلى جنوه . وتأسست في سنة ( 1883م ) بصنعاء شركة إيطالية أخرى للتجارة . ومن المحتمل أنّ تكون الأمور التجارية التي قامت بها إيطاليا في اليمن خطوة أولى على طريق بسط نفوذها وسيطرتها على جزيره زقر ، وحنيش .[c1]إيطاليا والسواحل اليمنية[/c]والحقيقة ما كانت إيطاليا تتجرأ تهديد السواحل اليمنية إلاّ بعد أنّ رأت السلطنة العثمانية في حالة ضمور شديد بصورة عامة وفي اليمن بصورة خاصة ، فالحاميات العثمانية ضعيفة ومهلهلة ومتناثرة على سواحل اليمن كالحديدة ، المخا ، وميدي . ومن أجل الاحتكاك بالشواطئ اليمنية . فقد كان على إيطاليا أنّ تتذرع بشتى الحجج الواهية للسيطرة لبسط نفوذها على هذه الموانئ اليمنية الواقعة على البحر الأحمر. ويلفت نظرنا أنّ إيطاليا تارة كانت تستعمل القوة العسكرية وتارة أخرى تستعرض عضلاتها ، وتارة أخرى تتبع الأساليب السياسية السلمية مع السلطنة العثمانية . حقيقة تعددت الأسباب والهدف واحد وهو السيطرة على السواحل اليمنية ، والاستيلاء على جزيرتي زقر ، وحنيش . ولقد ذكرنا أنّ إيطاليا لم ترنو إلى الشواطئ اليمنية إلاّ بعد تأسيسها مستعمرة إرتيريا على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر . فتذكر المصادر الإيطالية أنه في 9 يونيو ( 1899م ) وصلت سفينة حربية إيطاليا عند شواطئ الحديدة ، وهددت باستعمال العنف ، إذا رفضت السلطات العثمانية في اليمن بدفع التعويضات المالية المناسبة بسبب استيلاءها على أحدى السفن الإيطالية التجارية . وفي مطلع القرن العشرين ، وصلت سفينة حربية إيطاليا من جدة إلى المخا ، الحديدة ، كمران ، وفرسان بحجة مطاردة القرصنة في تلك المناطق . وفي عام ( 1902م ) بلغت التهديدات الإيطالية ذروتها وذلك باستخدامها القوة العسكرية حيث قام الأسطول الإيطالي بقصف عنيف لميناء ميدي . مما دفع بالسلطات العثمانية في اليمن إلى حشد الحشود في ميدي خوفًا من نزول الجنود الإيطاليين إلى شاطئها . ولم يمض عامين حتى حدث إنفراج نسبيًا بين العلاقة العثمانية الإيطالية في سنة ( 1904م ). وكان من نتائجها إقامة إيطاليا قنصلاً عامًا لها في الحديدة ، ونائب قنصل في المخا . وتذكر المصادر بأنّ أحد الإيطاليين وصل إلى المخا في ( 1909م ) لتجنيد عدد من اليمنيين للخدمة في الجيش الإيطالي في إريتريا . وفي سياق الحديث عن الحديدة , فقد ذكرت المصادر بأنّ إنجلترا كان لها قنصلاً فيها منذ عام ( 1884م ) . وكان من الطبيعي أنّ تكون إنجلترا تعلم تمامًا بالتحركات الإيطالية أمام السواحل اليمنية وترصد تحركاتها من قبل وكيلها التجاري في الحديدة ودورياتها البحرية التي كانت تصول وتجول في ممر جنوب البحر الأحمر. [c1]إيطاليا والجزر اليمنية[/c]قلنا سابقا : أنه بعد أنّ تم إعلان تأسيس مستعمرة إيطاليا في إريتريا سنة ( 1890م ) تجرأت إيطاليا على توسيع نفوذها على السواحل الآسيوية للبحر الأحمر . وبناء على ذلك فقد اقترح حاكم إيطاليا العام لمستعمرة إريتريا ( مارتيني ) على حكومته بضرورة التفكير السريع ، والجاد ، واتخاذ الخطوات العملية على احتلال إيطاليا لجزر زقر ، وحنيش « وقد كتب إلى وزير خارجيته مشيرًا إلى أهمية تلك الجزر من النواحي الإستراتيجية ، والسياسية ، والاقتصادية « لإيطاليا . وقد أبدى اهتمامًا زائدًا على نشر فكرته تلك وهو احتلال تلك الجزر اليمنية ، عندما توجه إلى وزير خارجيته ليقنعه بسلامة فكرته . وفي تقرير آخر أرسله حاكم إريتريا إلى حكومته يوضح أنّ احتلال جزر زقر ، وحنيش سيكون من السهولة بمكان لكون الحكم العثماني في حالة شديدة من الوهن ، وأنّ خروجه من الجزيرة العربية بات شيئاً مؤكدًا . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد سالم مصطفى : « فقد ذكر ( حاكم إريتريا ) أنّ الحكم العثماني في الجزيرة العربية إلى زوال ، وأنّ على إيطاليا أنّ تعد عدتها لترث بعض ممتلكات السلطنة في تلك الجزيرة ( العربية ) أو بعض جزرها ، وأنّ تكون على أهبة الاستعداد للانقضاض على جزر زقر ، وحنيش عندما تستولي ألمانيا على جزر فرسان « . ونستخلص من التقرير الذي أورده ( مارتيني ) إلى حكومته على النحو التالية : أولاً : أنّ السلطنة العثمانية في ضمور شديد في الجزيرة العربية ، وأنّ خروجها من هذه المنطقة لا محالة قادم . ولهذا على إيطاليا الإسراع بملء الفراغ السياسي والعسكري في الجزيرة في حالة خروج العثمانيين منها حتى لا تفكر دولة أوربية أخرى بالنزول في هذه الجزر . ثانيًا : من المحتل أنّ ( مارتيني ) أراد أنّ يضع إيطاليا أمام الأمر الواقع ، ويدفعها إلى اتخاذ خطوات شجاعة وجريئة لاحتلال جزر زقر ، وحنيش . ومن المرجح أيضًا ، أنّ هذه الخطوة الخطيرة ، يجعل إنجلترا أمام سياسة بالأمر الواقع ، وتذعن لاحتلالها على ما ستثيره من احتجاجات واعتراضات . [c1]البحر الأحمر بحيرة إنجليزية[/c]ومن أجل تحقيق إيطاليا مشروعها الاستعماري إزاء احتلالها للجزر ( زقر ، حنيش ) بطريقة لا تثير الشكوك لدى السلطنة العثمانية ، وإنجلترا ، فقد رأى حاكم إريتريا الإيطالي أنّ تطلب من الباب العالي العثماني مساعدته في محاربة تجارة الرقيق ، والقرصنة وذلك من خلال إرسال قوة بحرية إيطاليا إلى كل من زقر ، وحنيش مع الحفاظ على السيادة الشرعية العثمانية على هذه الجزر ، ودون إبعاد الحامية العثمانية منها . ويعقب سيد مصطفى سالم على ما ذكره ( مارتيني ) حول مساعدة إيطاليا للسلطنة العثمانية في جزر زقر ، وحنيش لمحاربة الرقيق ، والقرصنة ـــ كما ذكرنا سابقا ـــ بأنّ هذه الموضوع الخطير الذي طرحه حاكم إريتريا . قد أزعج كبار المسئولين في الحكومة الإيطالية ، وخصوصًا وزارة الخارجية الإيطالية التي رأت أنّ هذه الخطوة الجريئة الإيطالية في طلب السلطنة العثمانية ، بمساعدتها في جزيرة ، زقر ، وحنيش سيفسر بأنّ « إيطاليا ترغب في احتلال تلك الجزر والاعتداء على السيادة الشرعية للسلطنة . وقد رأى الوزير المفوض الإيطالي بضرورة أخذ موافقة إنجلترا في تلك الخطوة الإيطالية في جزر زقر ، وحنيش في حالة إقدام حكومته على ذلك الأمر الخطير . [c1]انجلترا وإيطاليا وجها لوجه[/c]« فقد جاء في رد المسئولين البريطانيين في القاهرة بأنّ الأدميرالية البريطانية في البحر الأحمر لا تنظر بعين الارتياح إلى استيلاء إيطاليا على جزر زقر وحنيش . واتهم الممثلون البريطانيون في استانبول إيطاليا بأنّ مشروعها هذا يعتبر الخطوة الأولى إلى خلق مجالات نفوذ لها في الجزيرة العربية . وقد حرص وزير الخارجية البريطاني عندئذ أنّ يبلغ السفير الإيطالي بلندن بموقف بريطانيا الرافض لفكرة وضع قوات إيطاليا في جزر زقر وحنيش إلى جانب القوات التركية ، وقام السفير بإبلاغ حكومته بذلك « . والحقيقة أنّ إنجلترا وضعت في نصب عينيها بأنّ البحر الأحمر والجزيرة العربية ، تعد خطوط حمراء للقوى الأوربية لا يمكن تجاوزها ، وبتعبير آخر أنّ إنجلترا ، كانت تعتبر حوض البحر الأحمر بحيرة إنجليزية نظرًا لكونه يمثل شريانها الحيوي إلى ممتلكاتها في الهند ، والشرق الأقصى . فكان « إبعاد أية قوة أوروبية عن الجزيرة العربية ، أحد الثوابت في السياسة البريطانية منذ أنّ عرفت بريطانيا طريقها إلى البحر الأحمر « . [c1]ألمانيا القيصرية وجزيرة فرسان[/c]وعلى الرغم من العلاقات الودية التي كانت تربط السلطنة العثمانية بألمانيا القيصرية ، فقد كانت الأولى تسعى سعيًا حثيثاً أنّ يكون لها موضع قدم في بعض الجزر اليمنية الهامة كجزيرة فرسان التابعة للسلطنة ولكن السلطنة وقفت لها بالمرصاد ، وأدركت إدراكًا عميقاً ما تسعى إليه ألمانيا القيصرية في احتلال بعض الجزر اليمنية الواقعة في البحر الأحمر . وعلى أية حال ، فقد تمكنت السلطنة العثمانية بالرغم من الأوضاع السياسية والمالية الصعبة التي كانت تخنقها ، أنّ تفوت الفرصة على صديقتها ألمانيا . والحقيقة أنّ ألمانيا مثلها مثل القوى الأوربية الاستعمارية التي رنت ببصرها إلى تأسيس مستعمرات لها في ضفتي البحر الأحمر سواء الأفريقي أو الآسيوي . فقد كانت الأوضاع والظروف السياسية في ألمانيا هي التي دفعتها إلى الدخول بقوة إلى حلبة الاستعمار بجانب القوى الأوربية الأخرى كإيطاليا ، وفرنسا . والحقيقة أنّ ألمانيا القيصرية بعد أنّ تمكنت جيوشها من هزيمة فرنسا ، ودخولها عاصمتها باريس ، فقد أجبرت الأخيرة على توقيع معاهدة فرانكفورت عام ( 1871م ) ، وكان من جراء تلك المعاهدة أنّ سيطرت ألمانيا على أقاليم غنية وهي الألزاس ، واللورين اللذين كانا لهما مردود مالي كبير على النهوض باقتصادها فضلاً عن التعويضات الفرنسية الحربية الضخمة التي حصلت عليها لتمويل صناعتها . والجدير بالذكر أنّ ( بسمارك ) مهندس الوحدة الألمانية وجد أنه من الأفضل لبلاده التوجه نحو السلطنة العثمانية أي نحو الشرق ، وإقامة المشاريع الألمانية الضخمة بها بدلا من سياسة إقامة المستعمرات في أفريقيا . ولكن تحت ضغط الرأي العام الألماني الجارف أذعن بسمارك إلى سياسة تأسيس مستعمرات ألمانيا في عدد من مناطق القارة الأفريقية وهي تنجانيقا في شرق القارة ، الكاميرون ، وتوجو في الغرب ، ومنطقة جنوب غرب أفريقية ( حاليًا ناميبيا ) في جنوب القارة. [c1]الألمان قادمون ! [/c]قلنا سابقاً : على الرغم من العلاقات الودية بين السلطنة العثمانية وألمانيا ، فقد تسللت الأخيرة إلى الساحل الأسيوي للبحر الأحمر ، وعلى وجه الخصوص جزيرة فرسان الكبرى ، وقد قامت ألمانيا بعدد من المناورات السياسية أو بعبارة أخرى قامت بجس نبض السلطنة العثمانية في حالة سيطرتها على جزيرة فرسان ، ولكن الأخيرة حزمت أمرها ووقفت بقوة أمام صديقتها ألمانيا في تلك المسألة . وكانت الخطوة الأولى لسياسة ألمانيا القيصرية في السيطرة التدريجية على تلك الجزيرة هي أنها وصلت أحدى سفنها إلى هذه الجزيرة ، وقد أفرغت فيها حوالي خمسين طناً من الفحم . وكان رد السلطنة العثمانية عنيفاً ، فقد أمرت والي صنعاء بأنّ تعاد شحنة الفحم إلى السفينة الألمانية أو مصادرتها . وقد خرجت بعض الأنباء بأنّ ألمانيا ، كانت تنوي الاستيلاء على جزيرتي فرسان ، وكمران بالقوة , وذلك بعد أنّ رفضت استانبول طلب الألمان بتأسيس محطة فحم في المخا . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : « وكانت الرواية الشائعة حينذاك هي أنّ السفير الألماني في استانبول قد طلب منح ألمانيا امتياز إقامة محطة فحم في المخا ، لكن رُفض هذا الطلب ، وأنّ الألمان حينذاك قرروا أخذ فرسان أو أي مكان آخر بالقوة « . ويمضي في حديثه ، قائلاً : « ونخرج من وراء هذه الحادثة بأنّ المسئولين في جزيرتي فرسان وكمران ، قد أبرقوا إلى « والي صنعاء « بكل ما حدث مما يؤكد أنّ جميع هذه الجزر ، كانت تحت إشراف وسلطات العثمانيين في اليمن « . ويلفت نظرنا أنّ ألمانيا بالرغم من علاقتها الودية مع السلطنة العثمانية فإنها كانت تنوي بقوة اتخاذ خطوات عملية إلى درجة استخدام القوة في الاستيلاء والسيطرة على جزيرة فرسان وغيرها من الجزر الواقعة في الساحل الآسيوي للبحر الأحمر . والحقيقة أنّ الألمان على الرغم من موقف السلطان العثماني المتشدد بعدم السماح لهم بإقامة محطة أو مخزن فحم في المخا أو حتى الوصول إلى جزيرة فرسان ، فإنهم ، كانوا يحاولون قدر جهدهم وطاقتهم بسط نفوذهم في بعض الجزر التابعة للسلطنة كجزيرة ( جبل الطير ) ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل الذريع . [c1]جزيرة (( كومة ))[/c]ويبدو أنّ ألمانيا القيصرية عندما وجدت الرفض القاطع من السلطنة العثمانية بعدم السماح لها ببناء محطة فحم في المخا من ناحية وبسط نفوذها على جزيرة فرسان من ناحية أخرى ، أنّ تقتنع بـتأسيس محطة فحم في جزيرة من الجزر الواقعة في البحر الأحمر والتي تشرف وتسيطر عليها السلطنة وهي جزيرة ( الكومة ) وهي أحدى جزر فرسان . ولقد وضعت السلطنة العثمانية عدد من الشروط على ألمانيا القيصرية وأهمها هي « أنّ تقوم ألمانيا بمد المحطة بالفحم على أنّ تقوم تركيا بإقامة المبنى الذي سيخزن فيه هذا الفحم ، وأنّ تظل جميع المنشآت تحت العلم العثماني « . [c1]إنجلترا وألمانيا وجهًا لوجه [/c]والحقيقة أنّ إنجلترا لم تحرك ساكناً إزاء تواجد ألمانيا في جزيرة (( الكومة )) أو بعبارة أخرى لم تثير زوبعة من الاحتجاجات والاعتراضات الشديدة . بسبب أنّ هذه الجزيرة غير هامة من ناحية ولكون السلطنة العثمانية وضعت شروطا على ألمانيا لا تسمح لها بالإنفراد بالجزيرة من ناحية ثانية ولا تسبب أية خطورة على موقع عدن السياسي والعسكري بل والتجاري من ناحية ثالثة وأخيرة . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : « ويبدو أنّ بريطانيا قد اطمأنت بالاً نتيجة حرص السلطنة العثمانية على رفع علمها على جزيرة كومة ووضع عدد من الجند بها « . والحقيقة أنّ بريطانيا بعد دراستها لكافة الجوانب السياسية والعسكرية والتجارية لجزيرة الكومة تأكد لها أنه لا يوجد خطر حقيقي يؤثر على موقع عدن . وفي وهذا الشأن ، يقول سيد مصطفى سالم : « ويبدو أنّ بريطانيا أرادت من وراء اهتمامها بدراسة هذه الناحية ( السياسية ، العسكرية ) ، أنّ تطمئن على عدم قدرة المحطة الألمانية على منافسة محطتها في عدن ، لا من الناحية التجارية فحسب ، بل من الناحية الاستراتيجية أيضًا ، لذلك ظلت تتابع هذه المسألة عدة سنوات في استانبول وبرلين وفي البحر الأحمر نفسه عن طريق سفنها التابعة لعدن « . [c1]إنجلترا ومصالحها في الجزر اليمنية[/c] ونستخلص من ذلك أنّ إنجلترا لم يكن يعنيها من قريب أو بعيد الحفاظ على ممتلكات الشيخ المريض السلطنة العثمانية بقدر اهتمامها على مصالحها السياسية والعسكرية والتجارية في البحر الأحمر الجنوبي وتحديدًا مستعمرة عدن . فانجلترا عندما وقفت ضد أطماع إيطاليا في احتلال جزر زقر ، كان يعود إلى ما يمكن أنّ تسببه الأخيرة من خطورة في جنوب حوض البحر الأحمر التي كانت من سياسة إنجلترا الاستراتيجية هو عدم دخول أية قوة أوربية في هذا البحر الذي يمثل لها الشريط الحيوي الهام إلى ممتلكاتها إلى درة التاج الإنجليزي وهي الهند والذي يجب ويتوجب أنّ يكون هذا البحر بحيرة إنجليزية . وخاصة بعد الحملة الفرنسية على مصر سنة ( 1798م ) التي لفت نظر إنجلترا إلى أهمية هذا البحر ، وعملت على بسط نفوذها السياسي والعسكري بل والتجاري في البحر الأحمر خوفاً أنّ تعكر صفوة مياهه قوى أخرى ولذلك عندما أطل وجه والي مصر الطموح محمد علي باشا على شواطئ البحر الأحمر . سارعت إنجلترا باحتلال عدن بالقوة سنة ( 1839م ) . وقبل مؤتمر برلين سنة ( 1878م ) ، كانت إنجلترا ترفع شعار السيادة الشرعية للسلطنة العثمانية على ممتلكاتها ، وعندما وجدت الأولى مصالحها السياسية تملي عليها أنّ تلتهم ممتلكات الأخيرة . فقد غيرت ثوبها السياسي في مؤتمر برلين وهو تقسيم تركة الشيخ المريض ، فكانت مصالح إنجلترا هي التي ترسم خريطة سياستها إزاء علاقاتها مع السلطنة العثمانية .[c1]السلطنة العثمانية والجزر اليمنية[/c]والحقيقة أنّ السلطنة العثمانية بالرغم من ضعفها الماثل للعيان بسبب تكالب الدول الأوربية عليها وعلى ممتلكاتها ودسائسهم ومكائدهم السياسية كروسيا القيصرية ، وإيطاليا الذين كانا من أشد القوى الأوربية ضراوة وقسوة في وضوح النهار على نهب ممتلكاتها وذلك ما عبر عنه قيصر روسيا عندما همس في أذن السفير الإنجليزي في موسكو حول متى سيتم تقسيم تركة « الشيخ المريض « ؟ . ويقصد به السلطنة العثمانية وإلى جانب الأوضاع والظروف السياسية المتدهورة والصعبة التي كانت تعيشها السلطنة ، كانت الأزمة المالية تعصف بها ، وتأخذ بخناقها إلاّ أنها أرادت أنّ تثبت وجودها للقوى الأوربية التي كانت تنتظر بفارغ الصبر الانقضاض على ممتلكاتها بأنها حاضرة على الخريطة البحر الأحمر السياسية ولذلك عمدت السلطنة في سنة ( 1881م ) على تحديث ، وتحسين نظام الفنارات في البحر المتوسط ، وبعض فنارات الساحل اليمني . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : « اهتمت السلطنة العثمانية بالفنارات في جنوب البحر الأحمر ــــ رغم أزمتها المالية ــــ لتأكيد وجودها في هذا الجزء من البحر ، ولتأكيد سيطرتها على جزر الزبير ، وأبو علي ، والطير ( إلى جانب ميناء المخا ) « . [c1]السلطنة العثمانية و الموجة الاستعمارية[/c]والحقيقة أنّ السلطنة العثمانية الذي بزغ نجمها في سماء الوطن العربي والعالم الإسلامي سنة ( 1517م ) بعد أفول نجم الدولة المملوكية في مصر استطاعت بقوة أنّ تحافظ على حوض البحر الأحمر وتجعله في فجر القرن ( 16م ) بحيرة عثمانية لم تجرأ سفن الدول الأوربية المرور به خوفا من قوة وبطش السلطنة وتحديدًا في عهد السلطان سليمان القانوني أعظم سلاطين السلطنة العثمانية على الإطلاق . وعندما حاول البرتغاليين عبور ممر البحر الأحمر للوصول إلى طرفه الشمالي ( مصر ) . سارع ملكهم إلى تقديم الاعتذار الرسمي للسلطان العثماني وذلك خوفاً من غضبه وبأس السلطنة فقدم له بعض التنازلات التجارية وهي أنّ يرسل كميات من التوابل إلى السلطنة ولكن الأخير رفضها بشدة أو بتعبير آخر رفض الاعتذار البرتغالي . وفي الحقيقية استطاعت الخلافة العثمانية في ذروة قوتها أن تكون حاجزً وسدًا منيعًا للوطن العربي والعالم الإسلامي ضد أطماع القوى الأوربية لعدة قرون طويلة ، وكانت الشعوب العربية والإسلامية تعيش في ظلال الخلافة العثمانية بأمن وأمان وطمأنينة . فقد تعودت الشعوب العربية والإسلامية منذ تاريخ ضحى الإسلام وعلى وجه التحديد في عصر الخلافة الأموية ، وبعدها الخلافة العباسية العيش تحت ظلهما وكنفهما اللذين كانتا بمثابة الحصن الحصين اللذين تحميهما من المخاطر ، والفتن ، والخطوب ، والقلاقل ( حينذاك ) . ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ الخلافة الإسلامية سواء الأموية أو العباسية أو العثمانية كانت المرجعية التي ترجع إليها الأمة العربية والإسلامية في حياتها المصيرية والخطيرة . وعندما تسللت جراثيم التيارات الغربية في جسد الخلافة العثمانية وفتكت بها وأوصلتها على مشارف الموت ، فقد فقدت بقاءها ووجودها كحامية ومظلة للأمة العربية والإسلامية ، فتعرضت البلدان العربية والإسلامية الواحدة تلو الأخر إلى غزوة أوربية شرسة ، وأخذت المطامع الأوربية تنهش في جسدها ، وذلك بعد أنّ فقدت الخلافة العثمانية ميزتها وهي قوتها التي كانت تحمي به الشعوب العربية والإسلامية من أطماع القوى الأوربية . وهذا ما أكده الدكتور محمد عمارة ، فيقول : « وفي اللحظة التي بدأت الدولة العثمانية ( 699 ـــ 1342 هـ 1299 ـــ 1924م ) تفقد ميزاتها وكفاءتها ـــ أي القوة التي جعلت منها جدارًا أخر الاجتياح الاستعماري لوطن العروبة وعالم الإسلام ـــ وعندما امتلأ هذا الجدار بالثغرات التي نفذ منها الغرب الاستعماري ، بالامتيازات الأجنبية ، وبالتقليد لحضارته الذي سمى (( تحديثاً )) ! ، عند ذلك اختلج ضمير هذه الأمة ، واستيقظت حواسها ، وتنبهت مشاعرها على وقع موجة جديدة وحديثة من موجات التحدي الحضاري التاريخي القديم . . موجة الغزوة الاستعمارية الأوربية الحديثة التي بدأت بحملة بونابرت ( 1798م ) والتي امتدت بعد ذلك إلى الشام « .[c1]الهوامش :[/c]د/ سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية ، الطبعة الأولى 2006م ، الناشر: ــ صنعاء ـــ دار الميثاق للنشر والتوزيع .د . عبد الله عبد الرّازق إبراهيم ؛ المسلمون والاستعمار الأوروبي لأفريقيا ، العدد 139 ـــ ذو القعدة 1409 هـ / تموز 1989م ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـــ الكويت ـــ .الدكتور محمد عمارة ؛ الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري ، الطبعة الأولى 1985 ، دار المستقبل العربي ــ القاهرة ـــ .