قراءة في صفحة من صفحات تاريخ الثورة اليمنية المجيدة
محمد زكرياعدن المدينة الأسطورية التي ولدت من بطن البحر ، والتي سحرت ألباب اليونانيين الفينيقيين ، والرومان ، وكانت مطمع الأخيرين للاستيلاء عليها لكونها كانت تمور بالنشاط والحركة التجارية مورًا . وكانت الإمبراطورية الرومانية أقوى إمبراطورية ظهرت على سطح الأرض حينئذ ترفض رفضًا قاطعًا كل من يحاول أنّ ينافسها سواء في الميدان التجاري أو السياسي ولذلك عمدت بعد سنة 24 ق . م على تدمير ميناء عدن حتى لا تكون منافسا لموانئها في البحر الأحمر المسيطرة من جهة وتكون أيضًا بؤرة مقاومة للوجود الروماني في حوض جنوب البحر الأحمر من جهة أخرى . وبالرغم من الخراب والدمار اللذين لحقا بالميناء ، فإنه لم تمض سنوات قليلة ، وعاد ميناء عدن يتوهج بالنشاط والحركة التجارية الكبيرين لكون أهل عدن الذين جبلوا على الصبر في مواجهة الشدائد والمتحلين دائمًا بالأمل العريض تمكنوا أنّ يبثوا الحياة مرة أخرى في أوصال مينائهم ، وصار الميناء من أشهر الموانئ في تاريخ الحضارات القديمة حينذاك وصار ملتقى تجارة الشرق والغرب . والحقيقة لقد أثرت الطبيعة تأثيرًا واضحًا على سلوك ، وصفات أهل عدن . وهذا ما أكده أشهر الرحالة المسلمين ابن بطوطة المتوفى ( 779هـ / 1378م ) الذي زار عدن في أواخر عصر الدولة الرسولية فيقول ما معناه : “ إنّ أهل عدن يتسمون بالطيبة والأخلاق ، والرحمة ، وبقوة الشكيمة ، وقوة البأس وهذا السلوك راجع إلى طبيعة البحر الذي يصافحونه ليلا ونهارا فهو تارة يكون هادئًا ، وتارة أخرى يكون هائجًا فتطبعوا بطبعه ، وتلونوا بلونه “ وبعبارة أخرى لقد صبغ البحر حياة أهل عدن بصبغته وإلى جانب ذلك أنّ عدن تحيطها الجبال الشامخة من كل مكان ، كأنها ذراع قوية تحميها من أطماع الطامعين كما حدث مع البرتغاليين سنة ( 1513م ) ، والمماليك سنة ( 922هـ / 1516م ) . كل تلك العوامل الأساسية جعلت عدن مدينة فريدة في خصائصها وتحتل مكانة مرموقة ومتميزة بين موانئ العالم القديم ( حينذاك ) .[c1]عدن ووزنها السياسي[/c]وفي العصور الإسلامية تعاقبت على حكم عدن عددًا من الدولة اليمنية والدول الوافدة كالدولة الأيوبية ، وتذكر المراجع التاريخية بأنه بمجرد أنّ تسيطر أحدى تلك الدول كالزيادية ، والصليحية ، والزريعية ، والرسولية ، والطاهرية ، سرعان ما تيمم شطر وجهها إلى عدن دُرة الموانئ اليمنية لكونها كانت المدينة الهامة التي تدر الذهب ، والفضة ، والأموال الهائلة إلى خزانتها . وكانت القبائل لا تستكين أو تذعن لتلك الدول إلاّ بعد أنّ تبسط نفوذها عليها فتدخل بعدها تحت لوائها . ونستخلص من ذلك بأنّ عدن عبر العصور ، كانت لها الأهمية الخطيرة على خريطة اليمن السياسية والاقتصادية . أو بعبارة أخرى أنّ عدن كان لها وزنها السياسي الثقيل ، فإنّ الأحداث التي تقع بها يكون لها دوي هائلً في سواء داخل اليمن أو خارجه . [c1]العودة إلى التاريخ[/c]والحقيقة إنّ العودة إلى تاريخ عدن يرسم لنا صورة واضحة عن عدن في تاريخها الحديث والمعاصر وبالإضافة إلى موقعها المطل على البحر العربي ، والمدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر جعلها تحظى باهتمام العالم ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . وعندما يتصفح المرء الوثائق البريطانية ، وما كتبه المحللين العسكريين والمؤرخين الإنجليز في أخطر وأهم الأحداث التي وقعت في تاريخها المعاصر وهي أحداث انتفاضة العشرين من يونيو سنة 1967 والذي يمر على ذكرها 41 عامًا والتي استمرت نيرانها مشتعلة في مدينة عدن ( كريتر ) مدة 14 يومًا ابتدأت من 20 يونيو وحتى الرابع من يوليو . في خلال تلك الأحداث وقعت معارك ضارية في أحياء ( كريتر ) أشبه ما تكون بمعارك حرب فيتنام التي دارت رحاها في شوارع سيجون بفيتنام ـــ على حسب قول مراسل B C B ـــ وأهمها ( معركة عدن الكبرى ) التي وقعت في 29 يونيو بين الثوار سواء كانوا من N L F الجبهة القومية ، و FLOSY جبهة التحرير الذين دافعوا بضراوة عن مواقعهم العسكرية الذين تحصنوا بها ضد القوات البريطانية التي كانت تفوقهم عددًا وعُدة . ولم يتمكن البريطانيين من دخول مدينة كريتر إلاّ بعد معارك شرسة في الرابع من يوليو 67 . وفي تلك المعركة خسرت القوات البريطانية عشرات من القتلى والجرحى . وقد حلل أحد محرري الصحف البريطانية المشهورة “ التليجراف “ إنّ انتفاضة العشرين من يونيو ، كانت لها تداعيات عديدة وخطيرة على مستعمرة عدن ، سندريللا الإمبراطورية البريطانية بصورة خاصة وعلى المنطقة بصورة عامة . والحقيقة أنه من يعود إلى تاريخ عدن إبان حكم الدول المتعاقبة التي حكمتها ، سيذهل من الترابط الوثيق والشائج بين ما حدث في العشرين من يونيو 1967 في فشل القوات البريطانية اختراق مدينة كريتر ، وزحزحة الثوار منها لمدة 14 يوماً وذلك بسبب طبيعتها الصعبة التي تحيط بها الجبال الصلبة إحاطة السوار في المعصم . وهذا ما حدث عندما حاول الأيوبيين سنة ( 1174 م ) دخول عدن ولكنها وجدت صعوبة في ذلك بسبب مناعة طبيعتها الجبلية ولم تتمكن من الدخول والسيطرة على المدينة إلا بعد معارك صعبة خاضتها مع المدافعين عن باب العقبة . ويذكر المؤرخون القدامى بأنّ الخيانة لعبت دورها الخطير في تسليم عدن بيد قائد الحملة الأيوبية توران شاه أخو السلطان صلاح الدين الأيوبي . [c1]المندوب السامي تريفليان[/c]في صباح يوم العشرين من يونيو سنة 67 م ، وردت أنباء عاجلة وخطيرة على مكتب المندوب السامي هامفري تريفليان في القصر البيضاوي بالتواهي المطل على البحر العربي والتي مازالت أمواجه الهائجة منذ الأزل تضرب الصخور الصماء المتكئة على الشاطئ والتي لم تهن في قوة صلابتها وشموخها . ولم يمض وقت قصير حتى دخل المندوب السامي إلى مكتبه ، وجلس على المكتب يقرأ كعادته المعارك العسكرية الساخنة التي كانت تدور في الشيخ عثمان ، والمنصورة والتي بدأت في الآونة الأخيرة تزعجه وتزعج حكومته في لندن والرأي العام البريطاني . ولم يدر بخلده أنّ هناك أخبارا خطيرة أو غاية في الخطورة وقعت قصة فصول أحداثها في مدينة ( كريتر ) الراقدة على فوهة بركان خامد منذ الخليقة . وطلب ( تريفليان ) شاي الصباح ـــ كعادته ـــ ، ولكن لفت نظره انّ الضابط الشاب المسؤول على خدمته ، ارتسمت على ملامح وجهه القلق الشديد . نظر تريفليان نظرة في وجه الضابط الشاب وأدرك من أول وهلة بأنه هناك أمور ا خطيرة وقعت في عدن ، وأعاد المندوب قراءة عددًا من البرقيات التي كانت تصل تباعًا وبصورة عاجلة و مستمرة من المخابرات البريطانية في المستعمرة وفي ثناياها كانت تحمل أخبارا غير سارة للسلطات البريطانية في المستعمرة ولحكومته ومن تلك البرقيات تذكر : “ بأنه حدثت أعمال شغب في التاسعة صباحًا في معسكر ( ليك ) ـــ الشهيد عبد القوي حالياً ) ، ومدينة الاتحاد ( الشعب حاليًا ) ، ومعسكر شامبيون ( النصر حاليا ) ، ومعسكر البوليس المسلح ( 20 يونيو حاليًا ) “ . وبعد فترة وجيزة ، أسهبت البرقيات بالتفصيل عمّا حدث ويحدث في عدد من المعسكرات تشير إلى أنّ : “ هجم المتدربون على نادي الضباط في معسكر ليك وأضرموا فيه النيران ، واستولوا على الحراسة بمدخل المعسكر ، وأطلقوا السجناء ، ثم قاموا بإطلاق عيارات نارية وإحراق بعض بنايات المعسكر “. “ وأمّا في مدينة الشعب ، فقد قام رجال الأمن باحتلال مبنى السكرتارية العامة فيها . واقتحموا مقر المعتمد البريطاني هناك ومزقوا الأعلام البريطانية والاتحادية وحطموا زجاج بعض النوافذ والأبواب “ . [c1] في معسكر شامبيون[/c]وفي معسكر شامبيون “ قام رجال الأمن بتحطيم أبواب مخازن السلاح وأخذوا منها الأسلحة والذخائر وتمركزوا فوق البنايات وعلى سور المعسكر ، وقتلوا في الحال ثمانية ، وجرحوا ثمانية آخرين ، ومن هناك أيضاً كانوا يطلقون النار على معسكر ردفان الذي كان مقرًا لبعض القوات البريطانية مما اضطر الانجليز أنّ يرسلوا قوة كبيرة للاستيلاء على المعسكر وإخماد الانتفاضة . وفيما بين العاشرة والنصف والثانية عشرة والنصف تمكن الانجليز من الاستيلاء على المعسكر بعد أنّ خسروا قتيلين وثلاثة عشر جريحًا ... “ .[c1]في معسكر البوليس المسلح[/c]وتعد انتفاضة معسكر البوليس المسلح في مدينة كريتر في العشرين من يونيو سنة 67 م من أعنف الانتفاضات التي وقعت في المعسكرات الأخرى . تذكر أدبيات ( الجبهة القومية بأنه ترامت إلى مسامع جنود الشرطة المسلحة بأنّ زملاءهم في معسكر شامبيون في خورمكسر يتعرضون لهجوم مسلح من القوات البريطانية مما أهاج مشاعر الجنود اليمنيين ، وتذكر الوثائق البريطانية ما نصه حرفيًا : “ استولوا ( أي جنود الشرطة المسلحة ) . . . على مخازن السلاح ، وتمركزوا فوق البنايات وسور المعسكر وأطلقوا سراح السجناء المدنيين في سجن عدن المركزي قرب المعسكر ( الوحدة السكنية حاليًا ) , ولما مرت أمام المعسكر حوالي الثانية عشرة ظهرًا سيارتان بريطانيتان تحملان جنودًا بريطانيين أطلقوا عليهم النار وقتلوا من فيها . . . “ . وتزداد ضراوة المعارك في المعسكر عند منتصف النهار فتذكر المراجع أنه “ في الثانية عشرة والنصف تقدمت نحو المعسكر الذي كان يتمركز فيه الفدائيون والجنود الأنصار دبابة وسيارتان لكن كثافة النيران من المعسكر ومن على سطوح المنازل أجبرتهم على التراجع ، ثم كانت هناك محاولة أخرى في آخر النهار وثالثة في المساء للتقدم نحو المعسكر لكنهما باءتا بالفشل وأجبرتا على التراجع . وقد تمكن الثوار أيضًا في نفس النهار من إسقاط طائرة هيلوكبتر وإحراقها ، وهكذا بعد كل تلك المحاولات الفاشلة لاستعادة السيطرة على مدينة كريتر رأى الانجليز أنّ ليس أمامهم من خيار إلا أنّ يتركوها في أيدي الثوار ، ولكنهم في نفس الوقت فرضوا عليها الحصار التام الذي استمر 14 يومًا . . . “ . [c1]معركة عدن الكبرى[/c]عندما تسلل الليل من أصابع الفجر في التاسع والعشرين من يونيو سنة 67 م ، كانت مدينة عدن تعيش في حالة من الأرق والقلق بسبب كثافة النيران المستمرة التي كانت تطلقها القوات البريطانية على أحيائها طوال ليلة الثامن والعشرين من يونيو . وكان ثوار الجبهة القومية وجبهة التحرير يترقبون ويتربصون لأية تحركات من القوات البريطانية التي كانت تعمل جاهدة على إنقاذ سمعتها بسبب عدم قدرتها على اقتحام مدينة كريتر التي سيطر عليها الثوار . والحقيقة أنّ معركة 29 يونيو (67م) ، كانت من أشرس المعارك الضارية وإنّ لم تكن أشرسها على الإطلاق بين ثوار الجبهة القومية ، وجبهة التحرير من جهة والقوات البريطانية من جهة أخرى التي دارت رحاها في مدينة ( كريتر ) عدن القديمة التي تمتد جذورها إلى أعماق الحضارة الإنسانية. ويتعجب المرء أنّ تلك المعركة الكبرى لم تأخذ حظها من المؤرخين المحدثين ، والباحثين الحاليين بالبحث والتنقيب علمًا أنّ الوثائق السرية البريطانية ( Secret Documents Britan ) احتوت على معلومات هامة عن تلك المعركة وصفتها(The Big Battle of Aden ) ( معركة عدن الكبرى ) وهذا دليل واضح على مدى ضراوتها التي وقعت على باب عدن ( العقبة ) والذي كان يصد الغزاة عبر تاريخ المدينة الطويل . [c1]خطة اقتحام كريتر[/c]ولقد كشفت وثائق المخابرات العسكرية البريطانية عن أحداث ( معركة عدن الكبرى ) ، فتقول بما معناه : “ كان من المتوقع من قواتنا البريطانية أنّ تضرب بتركيز وقوة مواقع الفدائيين في ( كريتر ) بالمدفعية لفترة تستغرق بين الساعة والساعتين ، ثم يتبعها هجوم سريع وخاطف من اتجاهات مختلفة من أحياء المدينة “ . وتمضي الوثائق ، فتقول : “ ولقد تم إعداد فرقة خاصة مدربة تدريبًا عاليًا في اختراق جبهات العدو ( أي الثوار ) تحت أصعب الظروف . وتم أيضًا تجهيز عدد من طائرات الهيلوكبتر المجهزة بالرشاشات . وتم تحديد وقت المعركة في فجر التاسع والعشرين من يونيو سنة 67م . وكانت الخطة العسكرية تقتضي الهجوم على محورين هامين ، المحور الأول هو اقتحام باب عدن ( العقبة ) بعدد من المدرعات ، تصاحبها قوات خاصة لاقتحام المدينة مدججة بالأسلحة الخفيفة ، والمتوسطة . وقوات أخرى محمولة جواً تنزل في صيرة وبذلك يكون العدو في وضع كماشة ، ومحاصر من الجهتين . وأنّ يكون هناك تنسيق كامل وشامل ودقيق بين القوات المرابطة في باب عدن ، والقوات المتمركزة في صيرة عند ساعة اقتحام المدينة ، وفي نفس الوقت تخترق عربات مسلحة طريق محكمة عدن ، وبذلك يتم تشديد الخناق على المدافعين عن المدينة “ . وتمضي الوثائق في شرح خطة الهجوم البريطاني على مدينة ( كريتر ) . فتقول : “ وجهت فوهة مدافع البطاريات من جبل معاشق على بعض أحياء كريتر ، المتمركز بها الفدائيون ، ولكن وجدت معضلة أمام القيادة العسكرية البريطانية وهي أنّ الجنود البريطانيين غير مدربين على قتال الشوارع مما قد يسبب وقوع خسائر كبيرة بينهم . ولكن أصرت القيادة العسكرية على ضرورة التضحية بعدد من الجنود مقابل القضاء على الانتفاضة وعودة مدينة ( كريتر ) إلى حظيرة السلطات البريطانية “. [c1] الثوار أقوى من أسلحتنا [/c] وتميط الوثائق اللثام في سير أحداث وقائع تلك المعركة بأنها لم تحقق الأهداف المرجوة منها. وكيفما كان الأمر ، فقد فشلت خطة الهجوم البريطاني على المدينة فشلاً ذريعًا وزحزحت ( الثوار ) عن مواقعهم وفي تلك المعركة الكبرى تكبدت الحملة خسائر فادحة في الأرواح . ولقد لخص بعض القادة العسكريين البريطانيين تلخيصًا أمينًا وصادقا في أسباب فشل الحملة ، قائلاً : « لقد فشلنا على الرغم من الإمكانات العسكرية الكبيرة التي كنا نملكها ، والخطة الهجومية السليمة والدقيقة التي وضعناها ، لقد وضعنا كل الأمور العسكرية في حساباتنا والتي دارسناها في الأكاديمية العسكرية البريطانية , أنّ الإرادة ، والعزيمة والتصميم الذي تحلى بها الثوار كانت أقوى من أسلحتنا الفتاكة « . ويمضي في حديثه ، قائلاً : « كان الفدائي له رسالة سامية واضحة وهو الدفاع عن مدينته ، فكان يتشبث بها حتى آخر رمق في حياته ، كان يقبل أرض مدينته الغالية ، ويرحل ، والابتسامة تعلو وجهه « . [c1]لماذا انفجرت الانتفاضة ؟[/c]ويظن بعض الباحثين أنّ الأسباب الرئيسة في انتفاضة 29 يونيو 67م أنها كانت رد فعل قويًا على هزيمة أو نكسة حزيران التي هزمت فيها الجمهورية العربية المتحدة ( مصر ) بزعامة الرئيس عبد الناصر والذي كان يمثل رمز المقاومة العربية حينذاك ضد الاستعمار الغربي وعلى وجه الخصوص بريطانيا وأمريكا . فأراد الثوار والجنود الموالون لهم في الجيش ، والأمن أنّ يعبروا عن غضبهم و رفضهم للهزيمة من خلال الانتفاضة المسلحة التي اندلعت في معسكرات عدن والتي استمرت 14 يومًا . والحقيقة أنّ عامل هزيمة الخامس من حزيران سنة 67م يعد من الأسباب الهامة ولكن ليست من الأسباب الرئيسة . الحقيقة أنّ الجبهة القومية (N L F ) وضعت نصب عينيها على أحداث دعاية مسلحة في مستعمرة عدن يكون لها دوي ضخم لكون أنظار العالم مشدودة إليها بسبب الكفاح المسلح الذي كان يدور على أرض الجنوب المحتل . وكان الرأي العام البريطاني يشعر باستياء شديد من جراء سقوط الكثير من القتلى والجرحى في صفوف قواته العسكرية في المستعمرة . فعندما وقعت أحداث انتفاضة 20 يونيو في مدينة عدن حدثت بها الخسائر الفادحة في صفوف القوات البريطانية ـــ كما قلنا سابقاً ـــ هاج الرأي العام البريطاني وفضلاَ عن ذلك انتقدت بشدة كبريات الصحف البريطانية سياسة الحكومة البريطانية الرعناء في إدارة الأمور في المستعمرة . مما دفع بحكومة العمال البريطانية بصورة جادة في التفكير بتقديم موعد الجلاء من عدن والجنوب بأسرع وقت ممكن . ويفهم من هذا أنّ سياسة الثوار ، قد نجحت نجاحًا منقطع النظير ، وحققت مكاسب سياسية ومعنوية كبيرة. وهذا ما أكده مؤرخنا الأستاذ ناجي سلطان ، قائلاً : « كان الغرض من الاستيلاء على الحي ( يقصد كريتر ) هو تحقيق مكسب سياسي خاصة بعد الهزيمة التي منيت بها الأمة العربية في 5 يونيو والتي كان الاستعمار يعتقد بأنّ سيكون لها مردودات سلبية على مسار الثورة العربية . . فكانت انتفاضة20 يونيو بمثابة رفض للهزيمة ». [c1]الضربة الوقائية[/c]ومن ضمن أسباب قيام ّ انتفاضة 20 يونيو ،أنها كانت بمثابة ضربة وقائية ضد السلطات البريطانية التي عثرت على خلايا سرية من الثوار في صفوف الجيش . وفي هذا الصدد ، يقول سلطان ناجي : « وتشير أدبيات الجبهة القومية إلى أنّ يوم 20 يونيو بدأت قصته و أحداثه عندما بدأت المخابرات البريطانية بأنّ هناك تنظيمات سرية للعمل الفدائي داخل الجيش العربي. فعزمت السلطات البريطانية على تصفيه من تشك بأنّ له علاقة بالثورة المسلحة « . ومن الأسباب الأخرى التي أدت إلى اشتعال انتفاضة 20 يونيو في عدن هو « تكثيف العمل السياسي بشكل عام وذلك من نواحِ عديدة أهمها تعريف قضيتنا للعالم كله بعد فضيحة زيارة البعثة « . ـــ بعثة الأمم المتحدة ـــ التي اعتبرتها الجبهة القومية رديفاً للاستعمار البريطاني أو التي تعمل على تمرير مخططاته في المنطقة . [c1]الثوار وجيش الاتحاد[/c]والجدير بالذكر أن المراجع البريطانية ذكرت أنّ الانتفاضة التي اندلعت في معسكر 20يونيو و معسكر البوليس المسلح ضمت عددًا من الثوار والجنود . وهذا دليل واضح وقاطع بأنّ الثوار وعلى وجه التحديد الجبهة القومية N L F استطاعت التغلغل في صفوف رجال الأمن ، وقوات جيش الاتحاد العربي الذي كان ينتمي الأغلب الأعم منهم إلى المناطق الريفية ( الداخلية ) . حقيقة أنّ الجبهة القومية للتحرير ، فقدت دعم الجمهورية العربية المتحدة ( مصر ) بعد ان شكلت جبهة أخرى تنتمي إلى الأفكار والسياسات والمواقف الناصرية وهي (( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل )) FLOSY مما سلب شهرة الأولى في الخارج ، ولكنها تمكنت أنّ تقوي قبضتها في الداخل ، ويبدو أنّ القيادة العامة للجبهة القومية N L F أدركت بوضوح أنّ النصر الحقيقي يكتب في الداخل وليس في الخارج . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور محمد عمر الحبشي : « وأدى تبدل التحالفات إلى إضعاف وضعية (( الجبهة القومية للتحرير )) بالأخص في الخارج حيث يتمتع خصمها بشهرة واسعة . ومع ذلك ، عرفت (( الجبهة القومية للتحرير )) أنّ تعوض عن هذه الخسارة بتقوية وضعها في الداخل . ومنذ عام 1965 نجحت في التغلغل في الحركة النقابية وفي الجيش « . وتضح قوة الجبهة القومية في انتفاضة 20 يونيو التي اندلعت في كريتر ( عدن ) وصارت القوى الوحيدة بلا منازع على المسرح السياسي في عدن والجنوب المحتل . وفي هذا الشأن يقول الحبشي : « غير أنّ عام 1967 ، كان حاسمًا . فتمرد الجنود والشرطة الذي حدث في 20 حزيران ( يونيو ) 1967 والذي جعل (( الجبهة القومية للتحرير )) وجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل تسيطران على مدينة كريتر طيلة أسبوعين تقريبًا ، قوى مجددًا نفوذ (( الجبهة القومية للتحرير ) . غير أنّ أخلاء العائلات المسيطرة فجأة عن أقطاعاتها منذ شهر آب ( أغسطس ) هو الذي فرض (( الجبهة القومية للتحرير )) بصفة نهائية وجعل منها المتباحث الأكثر قوة مع الحكومة البريطانية « . ونستخلص من حديث الدكتور محمد الحبشي بأنّ عدن كانت واقعة تحت نفوذ (( جبهة التحرير ) FLOSY ، وأنّ (( الجبهة القومية )) لم يكن لها تأثير واضح وقوي ومؤثر في المدينة ، ولكن عندما انفجرت الانتفاضة في 20 يونيو 67 ، صار لها نفوذ قويًا في عدن أو قل إذا شئت زاحمت (( جبهة التحرير )) نفوذها في المدينة التي كانت تعتبرها الأخيرة تدخل في دائرة سيطرتها المطلقة . فكانت من نتائج 20 يونيو هو أنّ ( الجبهة القومية )N L F ، تمكنت أنّ يكون لها حضوريًا قويًا في مدينة ( كريتر ) بعد أن كانت هذه المدينة محسوبة على جبهة التحرير أو تحت سيطرتها ـــ كما قلنا سابقاً ـــ .[c1]الدعاية المسلحة[/c]والحقيقة أنّ انتفاضة 20 يونيو المسلحة في مدينة ( كريتر ) لم تكن عفوية ، أو لحظة غضب وانفعال من الثوار من الجيش سواء من رجال الأمن ، أو البوليس المسلح ، كرد فعل على هزيمة الخامس من حزيران ( يونيو ) سنة 1967 ـــ كما سبق وأنّ أشرنا ـــ . وإنما كان هناك تنسيق واضح بين الثوار ورجال الجيش على ضرورة القيام بعمل عسكري أو بعبارة أخرى القيام بعمل دعاية مسلحة ضخمة تحدث دويًا هائلاً في الأوساط الداخلية والخارجية وخصوصًا في داخل الرأي العام البريطاني الذي كان غاضبًا كل الغضب من سياسة حكومته المضطربة في إدارة شؤون مستعمرة عدن من ناحية وفي مواجهة ضربات الثوار الموجعة للقوات البريطانية من ناحية أخرى . [c1]الرأي العام البريطاني[/c]ومن نتائج انتفاضة 20 يونيو 67 هو أنّ الرأي العام البريطاني كان غاضبًا من سياسة حكومته المضطربة في المستعمرة عدن ، والجنوب العربي المحتل ـــ كما قلنا سابقا وطالبها بالجلاء عنها . وكان هناك استطلاع قد أجرته مجلة « النيوزويك « البريطانية تشير بأنّ أكثر البريطانيين يؤيدون الانسحاب من عدن والجنوب بعد أنّ فقدت بريطانيا مبررات بقائها في هذه المنطقة وخصوصًا بعد إغلاق قناة السويس من جراء هزيمة مصر في الخامس من حزيران . وكانت هذه فرصة رائعة للثوار بأنّ يهيجوا الرأي العام البريطاني على حكومته وذلك من خلال انتفاضة 20 يونيو 67م .[c1] تغيير في الخريطة السياسية[/c]لسنا نبالغ إذا قلنا أنّ انتفاضة 20 يونيو 67م ، كانت إرهاصًا و مقدمة لتغيير الخريطة السياسية في عدن والجنوب العربي . فقد ظهر للسلطات البريطانية مدى هشاشة حكومة الاتحاد وذلك بعد أنّ رفض الجيش الانصياع لأوامرها للسيطرة على مقاليد الأمور ، بعد أنّ باتت (( الجبهة القومية )) قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على الكثير من المناطق في الجنوب المحتل وإنّ لم يكن أغلبها . وفي هذا الصدد ، يقول الحبشي : « ففي عدن تدهور الوضع بسرعة وبدأت (( الجبهة القومية )) في داخل البلد بزحفها على الإمارات . وفي آخر لحظة استنفر المجلس الأعلى الجيش لإنقاذ الاتحاد من الفوضى ، فرفض الجيش أنّ يتدخل ، ورد بجفاء طلب رئيس المجلس الأعلى الذي طلب منه ، أنّ يتسلم السلطة بلا شرط ولا استثناء ولم يلبث النظام الاتحادي أنّ سقط تاركًا وراءه فراغاً كاملا ومطبقاً « . [c1]تحية من القلب [/c]وكيفا كان الأمر ، تعد انتفاضة 20 يونيو سنة 67 التي وقعت أحداثها في مدينة عدن صفحة من صفحات تاريخ الثورة اليمنية المليئة بالملاحم البطولية الرائعة والمشرقة والتي سطر أصحابها حروفها من نور في أحرج وأصعب الفترات التي مرت بها اليمن . فانتفاضة العشرين من يونيو تعد امتدادًا للانتفاضات والحركات والثورات التي اندلعت في أوقات متفاوتة في تاريخنا اليمني الحديث والمعاصر فتلك الحركة الدستورية أو ثورة 48 التي زلزلت أركان النظام الإمامي المستبد والتي أحدثت تصدعًا كبيرًا في بنيانه . وهذه حركة الشهيد البطل المقدم أحمد الثلايا سنة 1955 . وهذه ثورة السادس والعشرين من سبتمبر سنة 1962 الخالدة ما تكاد تشرق شمسها في سماء اليمن حتى تبزغ بعدها مباشرة ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة سنة 1963 . ونستخلص من هذا بأنّ أحداث تاريخ الثورة اليمنية مرتبطة اشد الارتباط لا تنفصم عراه فهو كالجسد الواحد أذا اشتكى منه عضو تداعت باقي أعضاءه . فتحية خالصة من القلب إلى ثوار الثورة اليمنية بصورة عامة و شهداء انتفاضة 20 يونيو 67 بصورة خاصة الذين ضحوا بكل غالِ ونفيس لترتفع عاليًا راية العزة والكرامة والحرية في ربا يمن الوحدة الغالي .[c1]الهوامش :[/c] الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية , الطبعة الأولى 2006م ، الناشر : مؤسسة الميثاق للطباعة والنشر ـــ صنعاء ــــ الجمهورية اليمنية ــــ .سلطان ناجي ؛ التاريخ العسكري لليمن 1967 --- 1838 ، الطبعة الثالثة ـــ صنعاء ــ 2004 ، الناشر : دائرة التوجيه المعنوي .الدكتور محمد عمر الحبشي ؛ اليمن الجنوبي سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ، ترجمة : الدكتور إلياس فرح ، الدكتور خليل أحمد خليل ، الطبعة الأولى آذار ( مارس ) 1968 ، دار الطليعة للطباعة والنشر ـــ بيروت ـــ . Waterfiled , G. F. Sultans OF Aden London . John Murray, 1968 Julian Paget . Last Post ; Aden 1964 - 1967 Faber And Faber , London. 1966 .