تحمل الذاكرة الخليجية مشاعر سلبية مختلفة حول أدبيات هجاء النفط في الخطاب القومي العربي، ونفور طبيعي من مقولات سادت في مرحلة انتشار الفكر القومي واليساري المتطرف، حيث شاعت العديد من المصطلحات التي حولت من إطارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي المعرفي لوصف الواقع عند المثقف العربي إلى توظيفات مسيسة وساخرة . لكن النجاح النسبي الذي تعيشه التجربة الخليجية، مقارنة بغيرها من الدول العربية، والفشل لأنظمة شمولية صدرت مثل هذا الخطاب لم يعد لهذه الحساسية من معنى في هذه المرحلة التي تواجه فيها الدول الخليجية تحديات جديدة ومن نوع مختلف.لهذا تبدو ضرورة إنعاش المعالجات النقدية للتنمية في الخليج، وتطوير الوعي حول تأثيرات النفط المتشعب في ثقافة هذه المجتمعات، وبناء معايير داخلية وخاصة لتقييم مسار التجربة في كل مرحلة. الارتفاع الكبير في أسعار النفط خلال السنوات الأربع الماضية حول الطرح الإعلامي من الحديث عن مشكلات العجز في الإيرادات إلى حديث عن الفائض الذي يبدو في جانب منه صورة المنقذ المنتظر والحل السحري الذي يعود للظهور مرة أخرى في اللحظات التاريخية الحرجة عبر طفرة جديدة لإنقاذ ما يمكن انقاذه في مسيرة التنمية الخليجية، وفي جانب آخر يبدو كمشكلة تخديرية، لأنه لا يعبر عن نشاط انتاجي حقيقي، ويؤصل لاستمرارية مفهوم الدولة الريعية، مما يعزز حالة الاسترخاء النفطي، ويؤجل معالجة مشكلات التحضر من جذورها نتيجة التباطؤ المتوقع في الكثير من الحلول الإصلاحية في عدة مجالات. التهديد المستقبلي المنظور ليس في نضوب هذه السلعة، وإنما في تقلب أسعارها ومفاجئاتها، وقد تعلمت حكومات الدول المصدرة للنفط بعض الدروس من السبعينيات والثمانينيات بألا تفترض بقاء هذه الأسعار مرتفعة دائما، فقبل سنوات لم يكن من المعروف أن تقفز الأسعار لهذا المستوى، ومع أنه أصبح من المؤكد أن ظاهرة الارتفاع الحالية ناتجة عن الزيادة في الطلب مع نمو الاقتصاد العالمي المستمر وليس نقص الامدادات كما هي الحال في السبعينات، حيث تشير الكثير من المعطيات إلى أن هذا الارتفاع أساسي وهيكلي نتيجة متغيرات وبروز دول صناعية ناشئة. إلا أنه لا يمكن الاطمئنان لهذا السبب في استقرار سعري مرتفع لسنوات طويلة. تخفيض الاعتماد على عكاز النفط الذي ساعد على اخفاء عيوب الأداء التنموي، يجب أن تكون له أولية قصوى، ولا ينقص الحالة الخليجية منذ زمن رفع هذا الشعار وتكرار الحديث عن هذه الأولية، إلا أن المحصلة غير مطمئنة فبعد أكثر من نصف قرن من عمر النفط في خليجنا، لا زالت تمثل هذه السلعة حوالي 75 من الدخل القومي. لأن أسس البنية الاقتصادية لا تقوم على قوة العمل وانتاجية العامل. لقد حذر علماء الاقتصاد منذ الستينات من لعنة الموارد الذي اشتهر بـ«المرض الهولندي» وآثاره الجانبية الضارة نتيجة أرباح مفاجئة من مورد طبيعي، وتأثيره على سياسات الدول والطريقة الاستثمارية والاستهلاك الشعبي. فلا زالت للأسف الكثير من مظاهر ثقافة الطفرة هي السائدة، فبعد أن كادت هذه المجتمعات والدول أن تتجاوز الكثير من المفاهيم السلبية التي كرستها تلك المرحلة، ورأى الكثيرون مخاطرها بعد أن تحولت إلى نسق قيمي عام يسطير على سلوكيات الأفراد والمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص مع شيوع أنماط استهلاكية ضارة، وانحطاط في أخلاقيات العمل. لقد وجدت من قبل بعض المحاولات الإعلامية للتوعية ومعالجة الأمراض التنموية، التي ترسخت في عمق الوعي الاجتماعي، واتضح للنخبة صعوبة معالجتها بعد أن تأثر بها أكثر من جيل. الابتهاج بهذه الثروة الجديدة مرة أخرى قد يعطل هذه الجهود فقد بدأ واضحا عدم التهيؤ لها، وعدم وجود الرؤى الإستراتيجية لامتصاص هذا التدفق للسيولة غير المتوقع، أدت إلى ظهور مشروعات كبيرة بشكل مفاجئ، وترحيب دعائي يخلو من النقد الرصين لتفاصيل مستقبلية حول تشغيلها وأولويتها في خطط التنمية، وكيفية مواجهة أي صدمات اقتصادية قوية قد تحدثها تقلبات الأسعار. في هذا الوقت يطرح التحسن الإيجابي في الأسعار مستقبل العديد من الإصلاحات المنتظرة، وهل ستعطي دفعة قوية نحو تشجيع المراجعات في تطوير السياسات التعليمية، ورفع مستوى الحريات، وتفعيل المشاركة السياسية، وتحسين الكفاءة الإنتاجية عبر إصلاحات اقتصادية جوهرية تستفيد منها جميع شرائح المجتمع الخليجي، أم تتعرض لنكسة وتباطؤ نتيجة انحسار الحاجة لها، والشعور الاجتماعي والسياسي بعدم أهميتها. في مقالة موسعة وطريفة قدم توماس فريدمان لمجلة «الفورين بوليسي» تساؤلا مهما من خلال رؤية استقرائية أولية لسلوكيات العديد من البلدان المصدرة للنفط في أكثر من قارة من إيران إلى فنزويلا وروسيا ونيجيريا ودول عربية. دول تختلف في مستوياتها التنموية وتاريخها السياسي والحضاري. حيث طرح هذا التساؤل: لماذا يتحرك سعر النفط ووتيرة الحرية في اتجاهين متعاكسين..!؟ ، فقد حاول إيجاد رابط بين سعر النفط ومسار الاصلاحات السياسية والاقتصادية ومدى استمراريتها، حيث يرى أنه كلما كان المعدل العالمي لسعر الخام أعلى، اضمحلت العديد من الإصلاحات. ومع أن هذه الرؤية تفتقد للدقة والرؤية المنهجية في حقيقة هذا الربط نظرا لوجود معطيات مختلفة في كل حالة، إلا أنها لا تخلو من توعية ضمنية وتنبيه في استحضار التأثيرات الواقعية لهذا العامل، والذي يستحيل على أي مجتمع التحصن التام من سلبياته، مهما كان نضجه الحضاري، وتطوره الاقتصادي والسياسي. ما يجب استحضاره هنا، أن المسألة النفطية لم تعد شأنا خاصا بأهل التقنية والصناعة، أو خبراء الاقتصاد والسياسة، طالما تأثيراتها امتدت لتصل للنسق الاجتماعي والثقافي وبنية الفكر المعيشي والهموم اليومية للمواطن الخليجي، فمن النادر أن تجد تجمعا نخبويا أو شعبيا أو أحاديث جانبية في المجالس والمقاهي من دون نقاشات حول موضوع الفائض النفطي، وبعضها لا تخلو من مفاهيم سلبية حول طبيعة هذه الثروة، وكيفية استفادة الدول منها، ومخاطر تبديدها في اتجاهات لا تخدم التنمية الحقيقية مع غياب التوعية الإعلامية للمجتمع في هذه المرحلة وطغيان اللغة المبتهجة في هذا الفائض على حساب التثقيف الحقيقي حول طبيعة هذه الموارد، وأهمية الانتباه إلى سلبياتها في الإخلال بالتوازن التنموي. من إيجابيات هذه المرحلة الخليجية التي ربما تحد من عودة فكر الطفرة وانتشاره مرة أخرى، والاستفادة الحقيقية من هذا الفائض وتفعيل الإصلاح في مختلف المجالات، هو تزايد حالة المقارنات الخليجية الشعبية في تقييم تجربة كل دولة، وما لها من أثر فعال في تعزيز الذهنية التنافسية مع دول الجوار، والتسابق نحو الفرص التجارية والصناعية وهو من أقوى العوامل التي دشنت لفكر جديد يتداخل فيه روح التكامل والتحدي مع الآخر، فالمنافس القريب هو الأقدر على تحفيز الحكومات على قطع الصلات مع أزمنة البيروقراطية القاتلة للحراك التنموي. ما يعيب هذه المقارنات أن الكثير من النخب الثقافية والإعلامية تتورط في مقارنات مبسطة وشكلية لا تأخذ في حساباتها الكثير من المعطيات المختلفة بين مكان وآخر، ولا تساعد على صناعة معايير للقياس بين حالة وأخرى، يمكن من خلالها الحكم ومعرفة التجارب الناجحة والفاشلة.ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [c1]نقلا عن صحيفة (الشرق الاوسط) اللندنية
دول الخليج : من «مسألة العجز» إلى «مسألة الفائض»
أخبار متعلقة