قرأت لك
هناك كتب للقراءة ، واخرى للعصف الذهني والتعلم منها، وثالثة لاتوصلنا إلا إلى حالة ذهول لما تحويه من افكار متسلسلة ، لكنها غير قابلة للتنفيذ في زمننا الحاضر ، لما يحدث فيه من تسارع خطى الأحداث ، ومع ذلك تحفز العقل على التفكير بها، مثل هذه الأفكار نجدها في كتب (أمارتيا سن) عالم الاقتصاد الهندي الأصل ، والحاصل على جائزة نوبل ، وآخر كتبه ذلك الموسوم بـ (العقل قبل الهوية) .اشتهر (أمارتيا سن)، وهو بروفسور في كلية كنغز بجامعة كامبردج بنظرية (التنمية كحرية) باعتبارها اطاراً عاماً للخلاص من التخلف الاقتصادي والسياسي والثقافي ايضاً . وله كتب ومساهمات أوصلته إلى مصاف اقتصادي ومنظر للعلوم الاجتماعية من الدرجة الأولى .وفي كتابه (العقل قبل الهوية) الطبعة الاولى لعام 2002م ، وفي صفحاته الـ (313) يظهر قيمة العقل، ومكانة الافراد في المجتمعات ، معتبراً ان الأفراد قادرون على ممارسة التفكير خارج حدود المواقف الحضارية الأساسية المتجذرة في الجماعة التي ينتمون إليها ، مؤكداً وجود مواقف ومعتقدات عدة تسمح بالاختيار ، أي أهمية وجود العقل وتغلبه على الهوية باعتبارها إختياراً فردياً (أي أن الهوية تعتبر توصيفاً للجماعات المختلفة ).[c1]أشكالية الهوية[/c]يرى أمارتياسن أن للهوية إشكاليات، لكنها لاتقع في دائرة القرار الفردي فحسب ، لهذا طرح سؤالاً في كتابه (العقل قبل الهوية) مستفسراً : ألا يشكل المجتمع ككل مؤثراً كبيراً على تفكير الفرد ؟ وألا يحد هذا من قدرة الفرد على الاختيار ؟ ولكنه يعزز وجهة نظره بالحقيقة التي تفيد بأن الإختيار يمكن ان يحدث ، وأن أي رفض لممارسة التفكير حول كل مايحدث حولنا ، يمكن أن يقود في الاخير إلى التسليم غير المشروط بالظلم والاجحاف .. (فلو كان الخضوع للأعراف هو القانون الساري على السلوك لما ظهرت إلى يومنا هذا حقوق للمرأة مثلاً) .ويحذر أمارتيا سن من مجاراة الجماعة لتصل بالفرد إلى اتباع سلوك القطيع ، متذكراً ما عاشه بنفسه، عندما كان صبياً في الهند في اربعينيات القرن الماضي ، عندما اندلع العنف الطائفي بين المسلمين والهندوس في اعقاب نزاعات سياسية ).[c1]بداية الكتاب [/c]في (العقل قبل الهوية) والذي هو أصلاً عبارة عن محاضرة ( في نسخة مطبوعة) ألقاها أمارتيا سن في جامعة أوكسفورد (أرقى جامعات العالم ) وهو المحاضر الهندي البريطاني الجنسية ، المتعدد الهويات ، والباحث عن صيغة تتصالح فيها الهويات التي تبدو متناقضة ، والمهموم بقضايا الفقر والتنمية وردم الفجوة بين المجتمعات الفقيرة والغنية ، في هذا الكتاب يقول أمارتيا سن : (أنك لاتحتاج إلى العودة إلى أي شيء آخر سوى المصلحة الذاتية لكي تفهم السبب الذي يجعل البشر يسعون إلى تحقيق تبادلات مثمرة بينهم ، وفي أي مجتمع كان ) منطلقاً في ذلك من أن الدافع الذاتي والرغبة في تحقيقه أي ربح كان (في السوق مثلاً) أو تحسين الوضع الفردي ، هو الحافز الحقيقي لكل ما يمكن أن نراه من نشاط اقتصادي تبادلي بين البشر ).في هذا الرأي يتطابق أمارتيا سن مع آدم سميث الفيلسوف صاحب نظرية السوق والرأسمالية ، غير أن سوء الفهم الذي لازم آدم سميث يكمن في انه هو نفسه لم يشير إلى أن المصلحة الذاتية كافية لضمان عمل السوق على نحو ناجح.ويظهر أمارتيا سن أنه (من دون مجموعة لائقة من الافكار الاجتماعية مثل المسؤولية ، الجدارة والثقة لايمكن لأي سوق أن تعمل بطريقة فعالة ، سواء توافر فيها عنصر الجشع أو لم يتوافر ، وأن المصلحة الذاتية تتجسد في سلوك الفرد، وقد يفسر جزءاً من السلوك في السوق، وفي أي مكان آخر ، إلا أنها تقوم بذلك على نحو قاصر ) .[c1]العدالة والنقد الجماعي [/c]ومن افكاره التي حواها كتابه (العقل قبل الهوية ) وتناوله في أحد أقسامه كانت (العدالة كإنصاف ) التي جاء بها جون راول عالم الاجتماع الأمريكي ، والمتمثلة في تخيله لحالة المساواة بين أفراد جماعة متحررة من أية مصالح ، يتصدرون لاختيار القواعد الاجتماعية التي تحكم سلوكهم ، هذه القواعد التي يطلق عليها راول اسم (مبادىء العدالة ) حيث تميل هذه المبادىء إلى الاهتمام بشكل متساو لمصلحة كل فرد من الأفراد ، وبهمومه وحدود تصرفاته ، مما سيقود إلى معاملة متساوية لجميع الافراد داخل المجتمع ، ورغم أن بعض النقاد يرون في التضامن الجماعي الذي يطرحه راول كمبدأ لتحقيق العدالة ، أمر مازال غائباً اليوم ، إلا أن رؤية أمارتياسن تركزت حول عدالة التوزيع ، والتعاون مع الثروات المجتمعية بشكل يتيح أكبر قدر ممكن من المساواة بين الأفراد في مجتمعاتهم .[c1]التفكير خارج المنظومة [/c]لقد قيل عن كتاب (العقل قبل الهوية) أنه مثير للتفكير ، مما يعني أنه يجعل قارئه في حاجة إلى صفاء الذهن، والقدرة على التركيز ، والانتقال مع كاتبه من نظرية إلى اخرى ، إلى فرد قادر على اختيار طريقة عيشه ، ونمط استهلاكه ، ونوع المجتمع الذي سينتمي إليه ، والتفكير في هويته ، وكيف يمكن ان تصبح التنمية بوابة حرية للشعوب الفقيرة والمضطهدة ، كما يفكر أمارتيا سن بذلك .لكن أمارتياسن يطرح في نهاية كتابه سؤالاً عن الكيفية التي ينبغي بها الأخذ بعين الاعتبار الهويات المشتركة كالطبقات أو المعتقدات السياسية والاجتماعية ، مستفسراً عما اذا كان هناك شيء اسمه القيم الكونية ، لأنه يرى أن بوسع المرء ان يتقبل وجود مجال للاختيار وحرية في التفكير عند تقريره لهويته .