قصة قصيرة
[c1]فائز سالم بن عمرو..[/c]تلتف السيارة وتجاهد لمكابدة الطريق وكأنها أفعى تتلوى من شدة الألم يبلغ الضجر والاستياء ب(محمد) مبلغه فهو في موقف لا يحسد عليه تحيط به الأكياس وحوائج الناس التي تنبعث منها روائح مضجرة وتدوسه أقدام ركاب السيارة المكتظة حتى سقفها .. تحملق عيناه فلا يرى إلا فضاء واسعاً وخالياً .. يسأل نفسه متى سنصل إلى هذه القرية اللعينة .. يغرق في الخيال ويسترجع ذكرياته متسائلاً: ألم يكن من الأفضل لو غضضت نظري عن تصرفات مدير المدرسة وإدارتها لما كنت أرسل الآن إلى هذا المنفى البعيد والقرية النائية؟!.. تعاوده ثورة غضب تسري في عروقه من بقية أجداده محدثاً نفسه: لا والله لو أرسلت إلى الموت لقبلته ولن اعتذر لهذا المسخ الذكوري.. اهتزازات السيارة وتأرجحها تجعله يقطع تفكيره وتنهي حالة الغضب والفوران.. تقطع السيارة جبلاً طويلاً وتشرف على فضاء مميت، يبشره ركاب السيارة، وصلنا يا أستاذ.. يتمعن المنظر ويلتفت يساراً ويميناً وفوق وتحت لا يرى عمارات ولا أسواقاً ولا ملاعب ولا نوادي .بعد تعب وكلما اقتربت السيارة المتهالكة ابصر بعض الأشجار المتناثرة يسميها أهل القرية “الجرب” وهناك بيوت متناثرة مصنوعة من أحجار طينية يعلوها قش متراكم كثيف لكنه يمنع الأمطار من الانسياب إلى هذه السجون البشرية الاختيارية وعلى الرغم من بنائها المتواضع إلا أنها عملية تحفظ الدفء ليلاً ويجري الهواء فيها بحرية نهاراً لفتحات نوافذها المتقنة..يعلن محمد رفضه.. باحتجابه عن مجالس أهل القرية وينفرد بنفسه ويقصر نشاطه على عمله في المدرسة المتواضعة المكونة من ثلاث غرف صغيرة لكنه وجد الأمان فيها فعلى الأقل موقعها البعيد والنائي في أطراف القرية يبعده عن أنظار الناس ويمنعه من الحرج ومن مضايقة الناس وترحيبهم الزائف.. في فترة العصر يهيم محمد في وديان وجبال القرية وجربها وعند العودة يرتمي بجسده المنهك على صخرة ضخمة تتوسط الوادي يسميها المقصلة لأنه يشعر بالراحة كلما أضطجع عليها وواجهت عينه السماء الخالية والصافية يحاكيها بهمومه وتطلعاته فهي صديقه الوفي الذي لم يفش له سراً، وصوت الريح يدوي حوله يشعره بأنه يبحر في عالم الخيال.. اعتاد محمد سريعاً على بساطة الحياة في القرية وراقه صفاء أجوائها فلا يحد نظره عوائق اسمنتيه كما أن الوقت لم يعد يشكل له ضغطاُ فالوقت متوقف في هذه القرية .فوديان وساحات القرية نزهته ومرافقه الذي يشغل فراغه ويؤانسه في وحدته.يباشر عمله في المدرسة في الصباح مستمتعاُ بوقته بين طلابه وأبنائه لا يعكر صفوه إلا الطالب (نعيم) المشاكس المهمل الكثير الحركة والشكوى يتوجه إليه المعلم بعد ما يأس من كل محاولات إصلاحه وتقويمه بلهجة قاسية: اذهب فوراً ولا تحضر إلا مع والدك على الفور!. يضحك الطلاب بصوت قوي وجهوري على غير العادة.. تنحدر الدموع بطيئة من خدي نعيم.. ويتغير وجهه وتكسوه حمرة واصفرار ويطأطئ رأسه إلى الأسفل . المشهد القاسي يثير قشعريرة تجعل كل شعره في جسم المدرس تهتز يحس بالدوران والخجل والضجر وتكاد عيناه تدمعان.. يكابد نفسه على تمضية ما مضى من وقت الحصة يطلب بحزم من الطلبة السكوت، ويجلس نعيم بهدوء ويربت على كفه كأنه يعتذر منه!، يمضي الوقت ثقيلاً كئيباً مرهقاً يتصبب العرق منه.. ما أن يعلن الجرس انتهاء الحصة حتى ينطلق كالمجنون خارج الصف طالباً من زميله في المدرسة إكمال اليوم يحاول زميله إيقافه ليستفسر منه حقيقة الأمر، يطلق رجليه للرياح تسير به كالرصاصة الشاردة لا ترده إلا المقصلة التي يرتمي عليها ويعطي لدموعه الحرية في الانسكاب يبكي، يرتفع صوته بالنحيب.. يضع يديه تحت رأسه وعيناه معلقتان بالسماء.. منبوذ... إذا نعيم لا أب له. آه لذة غبية وشهوة حيوانية تتسبب في معاناة طفل وإنسان طول عمره.. أي أب يرضى ذلك لأبنائه؟!، وأي إنسان يمكن أن يعذب طفلاً لعمره كله؟ لعنة الله على ذلك الأب الحيوان الحقير.. يستنفذ مخزونه من السباب والشتم.. بعد ما تعب يتعوذ من الشيطان الرجيم: يستغفر ربه.. يرتحل النهار ويقبل الليل وهو متشبث بصخرته لا ينفك عنها كأنه يرفض أن يواجه الصورة المرعبة المنطبعة في ذهنه..لا يشعر بالوقت ولا يستجيب للجوع والعطش يحس أنه لو عاش عمره مضطجعاً على هذه الصخرة لما مل أوأصابه الكلل..ينصرف (محمد) عن الطلاب ويتجه إلى نعيم بالاهتمام ويغرقه بأوصاف المدح ويقدمه إلى جميع الطلاب يتقرب منه يريد أن يعوضه غلطته وفقدان الأب، لكن جرح نعيم غائر عميق فهو دائم الشرود منكسر خائف ضعيف الشخصية وافتقاد العاطفة والحنان والأب يرتسم في وجهه.. يتوجس يرفع المدرس صوته: نعيم هل تسمعني؟! يجيبه: هاه هاه.. واضعاً يديه أمام وجهه حانياً جسمه للخلف خوفاً! يطلق المدرس تطميناته لا تخف ابني لن يمسك أحد فأنا إلى جانبك!لا تخف.. يغرق (محمد) في صمته متأملاً ومتألماً من حالة نعيم، فعلاجه صعب جداً لكنه لن يستسلم.. بعد صلاة العصر يتحلق مكرها في جلسة القرية ويشعر كأنه مفروض عليهم يناقشهم ويحاول إقناعهم بالاهتمام بنعيم وتفهم حالته وان يوجهوا أولادهم لئلا يؤذوه ويحسنوا معاملته تتفلت كلمة من أحد الجلساء :لا فائدة في الفرخ لأهله عاد للآخرين.. يحم وجه (محمد) ويكاد يصك وجهه بالحجارة التي يعبث بها وينفر من المجلس مكفهراً كئيباً... يردد بصوت كظيم: ما هذه القرية الغبية وأهلها الحمقى! يبدون كأنهم متآلفون وهم متنافرون. الحسد والنميمة والبغضاء زاد مجالسهم ووقود ألسنتهم؟.كثيراً ما يصطحب المدرس (نعيم) معه في خلوته بين الوديان والبساتين وكلما حاول أن يشجعه يعوده التعايش مع نظرات أهل القرية وسطوة لسانهم مقنعاً إياه بأن هذا لن يستمر إلا ويواجهه نعيم بالدموع! تفعل هذه الدموع فعلتها وتقتلع المدرس وتزيد كرهه واحتقاره لهذه القرية وساكنيها الجهلاء..يباشر المدرس عمله كالعادة لكنه يتعجب من غياب (جمال). يحاول أن يشخص ببصره إلى آخر الصف بالطابور الصباحي لكنه لا يجده بين الطلاب.. تشجع نظرات المدرس أحد الطلاب فيبادر بالبحث عنه وإحضاره.. يفضل المدرس تركه على حاله وسجيته.. يتمدد مسترخياً في فترة الظهيرة في غرفته الصغيرة التي تضيق على استيعاب قدميه.. وتذهب به الأفكار يميناُ ويساراً متعجباً من أمر صديقه (نعيم) وغيابه.. ينطلق صوت امرأة مفجوعة خائفة منذراً القرية.. يتجمع أهل القرية يجاهد محمد لشق هذا الزحام دون جوى فيكتفي بسؤال احدهم ما الخبر؟ فيجيبه: نعيم قتل نفسه.. تغلي أحشاؤه وتتناثر أعضاؤه داخل جسمه، هول الكارثة وشدتها يحجر عينه ويمنعها من الاستجابة لقلبه ومشاعره الحزينة.. يهرع مع أهل القرية إلى الشعب السحيق في طرف القرية فيتدلى بجسمه عارضاً نفسه للموت غير آبه لتحذير أهل القرية وزجرهم.. يقف متأملاً وجه نعيم الملطخ بالدماء ويقترب ململماً بقايا رأسه المبعثرة ويحدق النظر في وجهه.. لم يخطر بباله أن يرى طفلاً ميتاً فهو بارد الجثة طاهر مضيء مبتسم بمفارقة الحياة.. عينا نعيم شاخصتان تواجهان محمد وتحدثانه تطلبان منه المغفرة والسماح وترجوانه عدم الحزن شدة بريق عينيه تخبره بأنه لم يعد يتحمل عذاب الناس وظلمهم وزجرهم وهمساتهم، ويتخيله يحاكيه ويقول له: الموت أفضل مئات المرات من هذه الحياة.. يغمض عينيه بإبهامه ويقبل وجهه.. يحضر أمام المسجد ويصيح بأعلى صوته :لا تصلوا على الكافر، من قتل نفسه فهو حطب جهنم.. ينزعج ويغضب بشكل هستيري ولولا أنه ممسك بوجه (نعيم) ومستجيب للموقف الحزين لثار عليه وقتله وأرسله إلى جهنم؟!.يردد (محمد): هم قتلوك بجهلهم وتكبرهم هم حملوك أخطاءهم وشهواتهم وأنت دفعت الثمن من جسمك وقلبك وإحساسك، وحتى بعد موتك يظلمونك بأي حق يحتقرونك ويتجنبونك؟! فأنت أشرف وأطهر منهم، يا ربي هل ستسمح لهؤلاء البغاة.. يكمل دعاءه وشكواه عند قبر نعيم المنبوذ في طرف القرية ويصلي عليه وحيداً، و عينيه بالنظر إليه ويتجه بجسمه بحركة عنيفة وسريعة تاركاً القرية خلف ظهره منقلباً بنفسه نحو الطريق الملتوية المظلمة تاركاً العنان لدموعه...؟!.