أضواء
للمقاومة في غزة معجزات وخوارق أبرزها اثنتان: الأولى صدّ جيش “إسرائيل”، سادس أقوى جيوش العالم، ومنعه من اقتحام المدن والأمكنة الآهلة رغم الغارات الجوية والهجمات البرية والبحرية والمقذوفات الصاروخية والقنابل العنقودية والفوسفورية والحصار المضروب منذ شهور لمنع وصول الأغذية والأدوية وبقية المواد الحياتية.الثانية بطولة خارقة في مقاتلة العدو أثارت اعجاب العالم من جهة وسخطه على الوحشية الصهيونية من جهة أخرى، ما استنفر الشعوب في كل الأقطار والأمصار وعبأها في تظاهرات ومسيرات أشبه ما تكون بسيول اجتاحت الشوارع والساحات لتصنع ظاهرة شعبية هائلة غير مسبوقة في تاريخ البشرية.لهاتين المعجزتين نتائج وتداعيات بدأت تظهر تباعاً. منها واحدة لافتة ظهرت مطلعَ هذا الأسبوع في مقر الأمم المتحدة في جنيف. فقد اتخذ مجلس حقوق الإنسان في جلسة استثنائية قراراً تضمّن ادانة شديدة للهجوم “الإسرائيلي” على قطاع غزة، واتهاماً ل”إسرائيل” بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وتأليف لجنة لتقصي الحقائق في الانتهاكات “الإسرائيلية” لحقوق الفلسطينيين، والطلب الى 16 مقرراً خاصاً الذهاب الى غزة من أجل المشاركة في التحقيق.أهمية هذا القرار، اذا ما أُحسن تنفيذه، أنه يؤدي الى ايداع مجلس حقوق الإنسان في جلسته العادية التي ستعقد مطلعَ شهر مارس/آذار المقبل مجموعةً كبيرة من التقارير المفترض أن تكون قد وضعتها لجنة تقصّي الحقائق والمقررون الخاصون وفريق العمل التابع لمكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، بالإضافة الى تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول استهداف مدارس وكالة غوث اللاجئين (الأنروا) في غزة.بعد كشف مضامين هذه التقارير التي ينتظر أن تكون مترعة، دونما شك، بوقائع وأدلة وشواهد دامغة حول جرائم “إسرائيل” وانتهاكاتها الوحشية للفلسطينيين، سيكون في وسع المتضررين كما المنظمات غير الحكومية في شتى أنحاء العالم رفع دعاوى جزائية ضد القادة السياسيين والعسكريين “الإسرائيليين” أمام المحكمة الجنائية الدولية.غير أن ذلك كله يبقى مشروطاً بإدامة حركة الشعوب الغاضبة ضد العدوانية “الإسرائيلية” الفاجرة والذين يقفون وراء الكيان الصهيوني في اعتداءاته وحروبه. من هنا تستبين حاجة العرب والشعوب الإسلامية، ممثلة بقواها الحية ومنظماتها غير الحكومية وفعالياتها الشعبية، الى التعاون والتنسيق مع مثيلاتها لدى شعوب العالم من أجل تأجيج الغضبة العارمة ضد جرائم “إسرائيل” وانتهاكاتها والضغط المستمر المتصاعد عليها لحملها على التراجع عن ممارساتها الإجرامية من جهة واتخاذ تدابير عقابية بحقها من جهة أخرى.الحقيقة أن ظاهرة الغضب الشعبية العالمية المتحركة والمتصاعدة هي أمل الفلسطينيين والعرب وكل الشعوب المضطهدة. فالحكومات بعضها متواطئ، وبعضها الآخر متقاعس، وقلة قليلة منها تتجاوب مع مواثيق وحركات حقوق الإنسان وحقوق الشعوب. لذلك يقتضي تعويض قصور الحكام وتقصيرهم بالاستقواء بدعم الشعوب الغاضبة التي دانت “إسرائيل” ودعت الى احالة قادتها المرتكبين على المحكمة الجنائية الدولية.لا يهم ان سمحت “إسرائيل” للجنة تقصي الحقائق ولسائر المحققين بالدخول الى قطاع غزة أو منعتهم من ذلك لأن لكلا الموقفين حسناته.السماح يمكّن المتضررين، أفراداً وجماعات، من اعتماد تقارير المحققين جميعاً، لاسيما تقرير لجنة تقصّي الحقائق، أساساً متيناً لرفع دعاوى ضدها أمام المحكمة الجنائية الدولية وسواها.المنع سيثير ضجة شعبية ورسمية عالمية هائلة يمكّن خصوم “اسرائيل”، وما أكثرهم، من الترسمل عليها سياسياً وإعلامياً لمعاقبتها والنيل منها.أكثر من ذلك، تتيح لنا “إسرائيل”، في حال منعها لجان تقصّي الحقائق والتحقيق من القيام بمهامها، فرصة نادرة لنقل القضية من مجلس حقوق الإنسان، الذي يطلق عليه قادة الكيان الصهيوني نعت “العالم الخرافي”، الى الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث لا تستطيع الولايات المتحدة أو غيرها ممارسة حق النقض “الفيتو” ضد القرارات التي تدين “إسرائيل”.آن الأوان كي تلجأ الدول المحبة للسلام والمؤيدة لحقوق الإنسان والشعوب الى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدلاً من مجلس الأمن، لحماية تلك الحقوق ولإدانة “إسرائيل” وغيرها من المرتكبين ومعاقبتهم. فالأمم المتحدة في ديباجة ميثاقها، وفي مقاصدها ومبادئها (مواد الفصل الأول) وفي وظائف الجمعية العامة وسلطاتها (المادة 10 و13 من الفصل الرابع) وفي التعاون الدولي واحترام حقوق الإنسان (المادة 55 من الفصل التاسع) وفي التوصيات والخطوات اللازمة لاحترام حقوق الإنسان (المواد 62 و63 و64 من الفصل العاشر) تستطيع أن تضع يدها على قضية انتهاك “إسرائيل” الفاضح لحقوق الإنسان في قطاع غزة، ومنعها غالباً لجان تقصّي الحقائق والمحققين من مباشرة مهامهم، وأن تتخذ من الإجراءات والتدابير ما يؤدي الى معاقبة “إسرائيل” على جرائمها ويضع حداً لمخالفاتها المتكررة للقانون الدولي الإنساني.لقد استغلت “إسرائيل” دائماً تقاعس الدول العربية، الغارقة في خلافاتها، عن مواجهتها بصرامة في المنظمات الدولية، كما استغلت تأييد الولايات المتحدة غير المشروط لها في مجلس الأمن لتتمادى في جرائمها ومخالفاتها للقوانين الدولية ولاسيما لاتفاقات جنيف الأربعة ولتفلت دائما من العقاب.هذا الاستهتار “الإسرائيلي” المتزايد بالأمم المتحدة والقوانين الدولية أضعف جبهة الدول المؤيدة لحقوق الإنسان في المنظمة الدولية لدرجة ان سويسرا امتنعت في الجلسة الاستثنائية الأخيرة لمجلس حقوق الإنسان في جنيف عن التصويت لمصلحة قرار ادانة “إسرائيل” لممارساتها الإجرامية في غزة. وقد كان موفقاً للغاية سفير فلسطين لدى الأمم المتحدة ابراهيم خريشي في تعليقه على امتناعها المشبوه بقوله: “خسرت سويسرا الكثير من رصيدها. فهي اكتسبت شهرتها العالمية بسبب اتفاقات جنيف الأربعة التي تمثل أساس القانون الدولي الإنساني وليس لأنها تنتج شوكولاتة شهية”!حتى لو افترضنا أن الجمعية العامة للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية امتنعتا لأي سبب من الأسباب عن احقاق الحق بإدانة “إسرائيل” ومعاقبتها، فإن في وسع الفلسطينيين والعرب والمتضررين من أفاعيلها الإجرامية التعاون من اجل احالتها على محكمة الضمير العالمية أو على المحكمة الدائمة للشعوب.في أواخر فبراير/شباط 2008 انعقدت في بروكسل، عاصمة بلجيكا والاتحاد الأوروبي، “محكمة الضمير العالمية من أجل لبنان” برئاسة ليليا سولانو (كولومبيا) وعضوية كل من كلوديو موفا (ايطاليا) ادولفو اباسكال (كوبا) واجندار ساشار (الهند) ونظرت، كمحكمة مستقلة عن أي دولة، في الأفعال التي ارتكبتها “إسرائيل” ابان حربها العدوانية على لبنان صيفَ سنة 2006 وقررت، بعد المحاكمة وتفحص الوقائع والأدلة والاستماع الى الشهود، اعلان مسؤولية السلطات “الإسرائيلية” عن الحرب ضد لبنان لارتكابها الجرائم الدولية الآتية:- جريمة الحرب.- جرائم ضد الإنسانية.- جريمة الإبادة الجماعية.إنه لمن المصادفات الجيدة أن ينعقد في لبنان من 16 الى 18 من الشهر الجاري “منتدى بيروت العالمي للمقاومة ومناهضة الإمبريالية والتضامن بين الشعوب”، وأن يكون بين المشاركين فيه بعض قضاة “محكمة الضمير من أجل لبنان” كما فرنسوا أوتار بصفته الرئيس التأسيسي ل “المحكمة الدائمة للشعوب”.ستكون لحرب “إسرائيل” العدوانية على غزة والجرائم الوحشية التي ارتكبتها فيها حصة وافية في أعمال المنتدى ومناقشاته. ولعل المنتدين يقررون، بناء على طلب ممثلي ضحايا تلك الحرب والمتضررين منها، انشاء “محكمة الضمير العالمية من أجل فلسطين وغزة” لمحاكمة قادة “إسرائيل” المسؤولين عن الجرائم المرتكبة فيها، أو يقررون احالة القضية على “المحكمة الدائمة للشعوب” للغاية نفسها.[c1]* جريدة «الخليج» الإماراتية[/c]