اقواس
الغائب الحاضر في الساحة الثقافية اليمنية هو الحاضر المغيّب نفسه، بكسر الياء، قسراً، ولمليون سبب يعوز الكثير منها المبرر المنطقي الذي يجعلنا نقتنع بسبب واحد للغياب لو توفّر، وليس خفياً على العاملين في مجالات النقد الأدبي والكتابة الصحافية أنّ عددا كبيراً من المبدعين المحليين في المساحة المشتركة للكتابة من مسرح وقصة ورواية وشعر، هم المغيبون أنفسَهم بفعل القوة ولا يحضرون بقوة الفعل، فالقوة التي تتوفر للظرف الاجتماعي والاقتصادي الضاغط بالدرجة الأولى، تظل أقوى بكثير من قوة الفعل الثقافي والإبداعي مهما استطاع تأكيد درجة الإبداعية التي تتوفر لهذا الشاعر أو ذاك المسرحي أو ذلك الروائي أو القاص، في المعادل الموضوعي التعويضي عن قياسات المادة والمنطق بمديات الفكر والثقافة والمتعة الأدبية.والغياب الموسمي، أو «البيات الشتوي المزاجي» الذي يمتد ليشمل الفصول الأربعة من عامٍ في حياة المبدع الإماراتي، هو حالة مزاجية اختيارية، وإن كان يشكّل في عرف الثقافة ميزةً فردية لمبدعٍ ما، لم يغب عن واقع مجتمعه وإن انطوى في عوالم مزاجيته المجنونة، كما في حالة لويس أرغون وسلفادور دالي وفان غوغ ومالارميه وبول إيلوار وكثيرين انزووا أحياناً، لكنهم ظلوا فاعلين ومؤثرين في ثقافات بلدانهم. والغياب الموسمي سمة غالبة تميّز المشهد الثقافي في الدولة وتسبب الكثير من الظواهر السلبية المتأتية عنها، وأهمها أولاً، الانقطاع المعرفي الثقافي كنقيض لما تتطلبه الثقافة والأدب في الدولة الفتية من تراكمية تساعد على التخزين الأمين للمنجز الإبداعي كرصيد مستقبلي ثمين، وثانياً، المراوحة التي تضع الحراك الثقافي العام في مساحة «الآن» الممتد من أمسِ، وصولاً إلى غد، رغم محاولات التحفيز الإبداعي التي ترعاها الجهات الرسمية اليوم وقبلاً بكثير من الحرص الهادف إلى خلق مجتمع الثقافة والريادة، في المنطقة والعالم، وما بين الأمس و»الآن» تتلألأ نجومٌ قليلةٌ تستقر في فضاءات المشهد الثقافي مبرزةً قدرتها العظيمة والجميلة على الصمود واحتمال الهم الثقافي الإبداعي، على قلتها، والبقية شهبٌ وضاءةٌ تمر سريعاً لتعود إلى الاختفاء ثانيةً، والانزواء في عالم داخلي بعيد بعيد، جنينيّ الاحتضان، حميميّ العلاقات، اعتقاداً من المبدع نفسه بأنّ الانزواء عن الآخرين سيعني حكماً التفرغ لهمومه الصغيرة.ولا يدري هذا الكائن الجميل في الكتابة والحياة، أنّ حدود مسؤوليته لا تقف عند مساحة فرديته فحسب، فهي تقع في حيوات الآخرين حكماً، كونه الرائي لهم، والراوي لهم، والعازف لمشاعرهم على أوتار الموسيقار الداخلية في نصه الكتابي، شعراً كان أم نثراً. وهو لا يدري أيضاً أنّ الكتابة عمل اجتماعي وجمعي بامتياز، لا يفترض فيه «فرض الكفاية»، فالمبدع مطالب بأن يسمو على اليومي في الحياة والكتابة، وأن يفرض حضوراً مشاركاً ومسؤولاً في ميادين الثقافة والأدب بل والحياة، فلا يقصّر في حضور جلسة فكرية، أو أمسية شعرية إبداعية، أو ورشة عمل تدريبية، أو استطلاع للآراء، أو تحقيق ثقافي صحافي، بل هو مطالبٌ بأن يمدّ يده دائماً، مفتوحةً لكلّ مصافحة ثقافية.