اقواس
تعودت مع اعتدال الجو هذه الأيام في عدن، أن أسير في العصرية بجانب البحر الممتد على الطريق البحري في خور مكسر، هذا الطريق المزين بأجمل الزهور المتنوعة لحديقة النصر، ويزداد جمالاً عندما تنعكس أشعة القمر على سطح الماء كأنها حقل من الابتسامات السعيدة. وأحس بصداقة بيني وبين هذا الطريق ما يحتويه من جمال النوارس البيضاء.. والنجوم البعيدة كأنها زهور مضيئة يتراقص فيها الماء حول نغمات الزهور والورود في جولة خور مكسر.وما كنت أضيق إلا من اندفاع بعض السيارات اندفاعاً لا يتساوى مع همس الطبيعة وحديث الموج للبحر.. ورغم الرادار الذي وضعته شرطة مرور عدن على الطريق البحري إلا أن سرعة وزحمة السيارات شوهت جمال الطريق.وفي الجزء الهادئ من الطريق، كنت أرى مسناً يجلس ويقرأ كتاباً، شيء جعلني أشعر بالسعادة، لأن الكتاب ما زال موجوداً رغم التقدم التكنولوجي للقنوات الفضائية والانترنت، وعن طريق الكتاب أحسست انه قريب مني، فصرنا نتبادل التحية إذا تلاقت الأعين.وقفت أمام هذا الرجل المسن وتأملت ملامحه من قرب وأطال النظر إلي.. دار الحديث بيني وبينه عن الكتاب المطبوع في اليمن، أمال رأسه ثم اعتدل وحدق بعينيه وقال :- أقضي معظم وقتي في قراءة الكتب والصحف والمجلات المحلية..- قلت : لا تشاهد القنوات الفضائية.- أجاب : قليلاً.قلت : أتقرأ المجلات المستوردة من الدول العربية.- ضحك قائلاً : لا.. لأن أسعارها خيالية جداً لا تتناسب مع معاشي الذي لا يتجاوز العشرين ألف ريال مع هذا الغلاء في ارتفاع الأسعار.- سألته : هل الصحف والمجلات تصدر بالطريقة الشيقة ومواضيعها تناسب ذوقك؟- أجاب : أحب قراءة الأخبار وصفحات المنوعات والمواضيع الطبية.صمت الرجل المسن قليلاً ثم قال : لماذا كل هذه الأسئلة.- قلت له : عندما رأيتك تقرأ، شعرت بالسعادة.. لأنني أشعر بشيء من الحزن، عندما وجدت المكتبات العامة تخلو من القراء عدا الباحثين والدارسين في مجالات التخصص.. فما أحوجنا اليوم إلى متنزهات عامة تساعد على القراءة والرسم.- ابتسم المسن من حديثي، وخفف عني هذا الهم، قائلاً : نحن بحاجة إلى من يدعم الكتاب والأدباء ويتفقد أحوالهم، فقد كنت في يوم ما أكتب الشعر ثم هجرته، لأن الأدب لا يطعم الطعام إذا أهملت الدولة أدباءها وكتابها..- ذكرت من حديثه هذا مأثورة خاصة بأدبائنا الأقدمين والمألوف لديهم أن ضيق ذات اليد من صفات المثقفين، فقد أطلقوا أقوالاً مأثورة لعل من أشهرها قولهم : فلان أدركته حرفة الأدب : بمعنى أنه فقير مملق، ويعود سبب فقره إلى أنه أديب مثقف.. إضافة إلى هذا أن سعر الكتاب أو المجلة أصبحت مرتفعة لا تناسب ذوي الدخل المحدود وهذا يؤكد عدم الاهتمام بالقراءة خاصة في مجال الثقافة والأدب والعلوم الإنسانية، على سبيل المثال ذهبت ذات يوم إلى أحد الأكشاك المنتشرة هذه الأيام على أرصفة الطرقات لشراء مجلة أدبية لي وأخرى لأبني، أصابتني الدهشة عندما اشتريت مجلة الأطفال المستوردة بقيمة (خمسمائة ريال) وكأننا نقول للأطفال لا تقرؤوا المجلات....وهناك كتب تصل أسعارها إلى أسعار خيالية لا تخطر على بال القارئ.إن ثمن الكتاب أو المجلة يجب أن يتحصل على دعم الدولة ممثلة بوزارة الثقافة، ومؤسسات الطباعة والنشر، حتى يستطيع كل مواطن شراء الكتاب، وحتى نصبح دولة تشجع القراء ونستطيع أن نمحي أميتنا، ونغذي فكرنا ونتذوق جمال لغتنا العربية.