لا ريب في أن الأمم الساعية إلى أن يكون لها دور هام ومشرّف في التاريخ البشري هي الأمم التي تنظر إلى الأمام بعين استشرافية ، الأمر الذي يعني وضع استراتيجيات مستقبلية للتنمية الشاملة، استراتجيات تعي الماضي وتعرف ما فيه من علامات وثغرات، وتدرك الراهن ومتطلباته، وتستقدم الآتي عبر مجسات شديدة الحساسية والإبصار.ولعل التنمية الثقافية هي من أبرز وجوه التنمية المجتمعية التي تسعى الأمم والشعوب إلى بلورتها واستدامة حيويتها ومركزيتها لأنها هي التي تصوغ التراث عبر وجوهه الأنقى والأكثر إنسانية وشفافية من جهة، وهي التي ترعى الراهن وتحتفي به باعتباره المرآة التي تضبط حراكها الاجتماعي الكلي من جهة ثانية، وهي التي ترسم الحياة المتوقّعة لمستقبل مقروء بذهنية لا تعرف التجميل والتلوين من جهة ثالثة. وذلك لأن الثقافة تشكل "الرواية" الأولى لحياة أي شعب من الشعوب، أو أية أمة من الأمم، بعبارة أخرى هي الاستهلال الأول الذي يأخذ الآخر إليه تعريفاً، وإدراكاً، للماضي والراهن، وتجسيداً لعتبات أولى موصلة إلى المستقبل المنشود . لا بل قل إن الثقافة، وبعيداً عن ضرورات التعريفات وصرامتها، هي الصبغة الأساسية لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم بعد معرفةٍ وإدراك القيم والعادات، والأعراف، وأنماط السلوك، والنوازع، والإسهامات على اختلاف أنواعها وأزمانها، أي أنها المرجعية الحقيقية، أو البنك الأزلي لذلك الشعب أو تلك الأمة.لكل هذا، تجتهد الأمم وتحرص في الوقت ذاته على إيلاء التنمية الثقافية الاهتمام كله دراسة وبحثاً، وتنقيباً، وتطويراً ، ليس لأن الثقافة عنوان الأمم وكتَابها الأبرز وحسب، وإنما لأن الثقافة هي الوعاء الحاضن لكل دوران الأمة وحراكها البشري من جهة، ولأنها هي قوة شديدة الأهمية من قوى الإنتاج للأمة نفسها من جهة ثانية، ثم لأنها هي كتاب الماء الذي يوحّد المشتركات ليس بين الكيانات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد (الفرد، الجماعة، المجتمع) وتفعيلها من أجل تعزيز المشاركة في الحراك العام للمجتمع وحسب، وإنما من أجل إيجاد المشتركات وتعميمها بين المجتمعات الإنسانية كافة طلباً لإذابة الفوارق أو تقريب المسافات بينها مع الاعتراف بسطوة الأفكار وتعددها، وكثرة المذهبيات والتوجهات وتنوعها، وتباين القيم وأنماط السلوك واختلافها، واصطراع التيارات السياسية والاقتصادية والدينية من جهة ثالثة . وفي تقديري، أن الاهتمام الكبير بالتنمية الثقافية يتبدى من خلال إدراكنا للدور الهام الذي تقوم به الثقافة والمتمثل في صياغة إنسان المستقبل . فالثقافة هي الكفيلة بالإجابة عن هذا السؤال: أي إنسان مستقبلي نريد ؟ إن تحديد ماهية هذا الإنسان الذي نريده ، هو الذي يرسم لنا الاستراتيجية التي ستعمل الثقافة بموجبها لصياغة هذا الإنسان في زمن متسارع في مراحله، متزايد في معارفه، متطوّر في تقنياته ووسائل اتصاله، مليء بتحدي الثقافات وصراعها، متنوّع في البيئات والأعراف والفنون والتقاليد وأنماط السلوك. وبذلك تصير الثقافة، من وجهة النظر المستقبلية، هي "المؤاخي" الأهم والجوهري بين الأفراد والمجتمعات والثقافات . إن استراتيجيات التنمية الثقافية، لأي شعب من الشعوب، أو لأية أمة من الأمم، ولدى فحصها وكشف مستبطناتها، هي التي تحدّد غايات تلك الشعوب والأمم من حيث قبولها للآخر كشريك لها في مجتمع بشري واحد، يقرُّ بالاختلاف والتعدّد والتنوّع أو تجاوزه تحييداً، وإقصاءً، ومحواً .. طلباً للتفرّد والسيادة ، في آن معاً. إن أبرز التعريفات التي وضعت للثقافة، ذلك التعريف الذي اختزله إدوارد تايلور في كتابه (الثقافة البدائية) والذي يقول: "الثقافة هي كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات، والفنون والأخلاق، والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع". إن قراءة هذا التعريف وتحليله ينتجان معاً التوكيد على تماهي الفرد والجماعة في صناعة خصوصية مميزة تسم الفرد والمجتمع معاً بميسمها الذي يعطيهما معاً هوية ذات أبعاد وصفات تغني التفاعل الاجتماعي وتعلي من شأنه، فالفنون والأخلاق، والعادات، والأعراف، وأنماط السلوك، والمعتقدات وغيرها لا هواء لها خارج التفاعل الاجتماعي . وهناك أيضاً، تعريف آخر للثقافة أشير إليه لأهميته، قدمه روبرت بيرستد يقول فيه: "الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نتملكه كأعضاء في مجتمع" . هذا التعريف يؤكد على اجتماعية الفرد، وأهميته المستلّة من تفاعله الاجتماعي، ودوره المشخص كفرد في مجتمعه. من هذا المنظور إلى تعريف الثقافة تصير المشاركة الثقافية ضرورة إنسانية لا بد من إتباعها واللوذ بها، كما تصير صبغة إنسانية لا بد من التحلِّي بها، أو السعي للتحلِّي بها لاكتساب الميزات والخصوصية. إن الثقافة فعالية يتعاون على إيجادها وتفعيلها ثلاثة أطراف أساسية، أولها: منتج الثقافة ومخرجها إلى حيزها الاجتماعي؛ وثانيها: متلقي الثقافة والمتعامل معها سلباً أو إيجاباً؛ وثالثها: المجتمع باعتباره مرآة عاكسة للتفاعل الاجتماعي بين المنتج والمستهلك، وبين المرسل والمرسل إليه أو المتلقي، وعيناً راصدة لقبول الثقافة أو رفضها .* باحث وكاتب كويتي
الثقافة أو الدور المتبقي لنا
أخبار متعلقة