حوار/ ياسر عبدالباقي وعمل كهذا يجعل من الكتابة صلاة إبداع يومية، وحرفة تتطلب الصبر والسهر والكتمان، ولغة ينبغي تطويعها باستمرار. وفي هذا متعة لا تشبهها متعة أخرى. في حين أن كتابة الشعر مختلفة تماماً. نعم، فالقصيدة تكتب شاعرها أنى تشاء! وما عليه - أي الشاعر - سوى أن يستسلم لزيارتها المباغتة وحضورها الجميل. ما يحتاجه الشاعر هو الورقة والقلم لكي يلوذ إلى أعماق نفسه ويتماهي مع قصيدته الجديدة إلى الحد الذي يفتقد فيه إحساسه بالزمان وبالمكان. فإذا ما انتهت القصيدة وانسكبت روحها وروح الشاعر على الورقة، أفاق فإذا الساعات قد مرت عليه كأنها الدقائق المعدودات، وإذا بالمكان أليفاً رغم حركة الناس وحضورهم وغيابهم وضجيجهم!إذن، فالقصيدة تباغت شاعرها، والرواية لا تحب المباغتة والمواعيد غير المتفق عليها مسبقاً. القصيدة عمل مفاجئ، والرواية عمل مستمر ومنظم. القصيدة شمس تشرق بين ساعات ممطرة ومليئة بالبرد والكآبة والغيم فتملأ الروح بهجة وسعادة بحضورها الذي يشبه السحر. والرواية شمس صيف حار، صيف عراقي لا يشبهه أي صيف في العالم، أو صيف أفريقي ملآن بالأعاجيب، أو صيف أسترالي معروف الصفات والملامح والدرجات! متعة القصيدة تمكن كذلك في كشف أعماق شاعرها. وقد تتعدى موهبة الشاعر مياهه الإقليمية الداخلية ليستكشف أعماق الآخرين ومخابئ أرواحهم وكهوفهم المخيفة. لكن ذلك يبقى متعلقاً بالخطوط العامة. أما التفاصيل فهي مهنة الروائي الرائعة! إنه الموثق لأصغر التفاصيل وأكثرها واقعية وعبثية وسوداوية: تفاصيل الآخر وأسراره وزواياه العميقة ومياه ورحه وصبوات قلبه وصيحات وأحلامه المغيبة وصيحات أعماقه!
قلت: إن حلم كتابة الرواية يراودني من يحن إلى آخر ولكنه حلم أراه قريباً من الاستحالة. هذا صحيح. وقد راودني في العراق أكثر من مرة، وفي الأردن حيث أقمت أكثر من سنتين، وفي أستراليا. لكنني كنت أجيد فن الهروب منه. ولي في ذلك أسباب أنا أبن العراق الذي أبتلي بالطغيان والطغاة والحروب والحصارات والأحزاب التي يقودها الانتهازيون والأنانيون وأنصاف المثقفين والأدعياء وحثالة المجتمع، مثلما أبتلي بالتقاليد العجيبة والعادات الاجتماعية التي صيرت الحياة طامة كبرى! العراق الذي لم تزل تتصارع فيه بعنف عجيب قيم البداوة والحضارة، وقيم القرية والمدينة، وقيم المؤمنين والملاحدة، وقيم العنف والسلام، وقيم اللصوص والزهاد، وقيم العسكر والمدنيين، وقيم البرجوازية والفقراء، وقيم الشرق والغرب، وقيم المسلمين والمسيحيين، وقيم العرب والأكراد، وقيم علي أبن أبي طالب والحجاج!أنا أبن العراق الذي أبتلي بالانقلابات العسكرية التي سودت وجه العراق وجاءت بالعسكر الذين حولوا البلد إلى ثكنة عسكرية لم تنتج سوى فن الرشوة وفن السلب والنهب، وفن المحسوبية والمنسوبية.أنا أبن العراق الذي أبتلي بالأحزاب التي تولي وجهها نحو المشرق والمغرب دون أن وجهها على الإطلاق نحو أبن البلد المنكوب، المحروم المعذب!أنا أبن العراق الذي أبتلي بالأمية الثقافية التي عمقتها الديكتاتورية ووسعتها حتى شملت النخبة الثقافية نفسها إلا من رحم ربي، والذي أبتلي، قبل ذلك وبعده، بالأمية في مفهومها الأصيل!
في أرض كهذه يكون الشعر هو الفن المطلوب ويكون كاتب هذه الأرض هو الشاعر.إنه، أي الشعر، الفن الذي يستجيب بسرعة مدهشة إلى الأحداث العجيبة والحروب العبثية والصراعات الزلزالية التي لا تكف عن التناسل والحضور، كما يستجيب بالسرعة ذاتها إلى صيحات الروح وسط الزلزال العنيف وصبوات القلب وسط الحرمان الأسطوري ودموع الروح وهي تنتقل من فاجعة إلى أخرى. في حين تكاد الرواية أن تتهاوى إزاء عنف الزلزلة والصراع الوحشي، لأن فن الكتابة الرواية، كما هو معروف، فن حضاري يستلزم، ضمن ما يستلزم، أرضاً ذات حد أدنى من الثبات والاستقرار حتى يستطيع الروائي أن يعرف أين تقف قدماه ليؤدي دوره المناط به. فكيف يمكن كتابة الرواية في بلد ينزف أبناؤه حد الموت دماً وحزناً وألماً نتيجة للصراعات الخرافية التي لم تعرفها أرض سوى أرض الرافدين، ونتيجة للانقلابات العسكرية التي نفست مؤسسات العراق الحديث نسفاً، ونتيجة، للأحزاب ذات وذات، ونتيجة للأمية الثقافية والأمية الاجتماعية؟كيف للروائي أن يمارس مهمته النقدية في مجتمع سحري وغرائبي من هذا النوع؟ بأي هامش مفقود أو ضحل أو ميت للحرية سيكتب الروائي إبداعه وهو الذي مهنته كشف التفاصيل الصغيرة لشخصيات المجتمع بشجاعة وشافية وعين ذكية، وكذلك التقاط التفاصيل العميقة لأسرار هذا المجتمع المتناقص والعجيب؟. كيف له أن ينجز هذه المهمة المقدسة دون أن يغامر بقطع رأسه أو بتفكيره أو بنذه أو تهميشه أو احتقاره؟! ثم من سيقرأ رواية الروائي هذا بنسخها التي لا تتجاوز الألف؟ أهي النخبة المختارة أو المنافقة - سمها ما شئت - والمتجسدة بهيئة أصدقاء الروائي ومعارفه فقط؟ وهل سيدفع، كذلك من جيبه للناشر “مصاص الدماء” لينشر له روايته التي أنفق في كتابتها السنوات، وعاني من أجلها ما عانى من صنوف الحرمان والمناطة للعيش؟ هنا يبدو الشاعر أفضل حالاً من أخيه الروائي بعض الشيء فهناك صحف ومجلات تنشر القصائد وتدفع مكافآت لشاعرها. والقصيدة لا تطلب حيزاً كبيراً لنشرها. ترى من ينشر فصول الرواية؟ أية مجلة تغامر في أن تفرد لفلان الروائي عشرات الصفحات لنشر فصل من رواية تعرف أن القارئ المتعب، لا يعيرها انتباها إلا أذا كانت لاسم مشهور جد أو كانت رواية ذات توابل جنسية ؟! لهذا كله تبدو كتابة الرواية، للأسف حلماً مستحيلاً أو قل هو المستحيل بعينه!* أتعتقد أن عصرنا هذا هو عصر الرواية؟ في العقد الأخير شهدنا تطوراً كبيراً في النشر الروائي العربي، هل تعتقد أن هذا سيأتي على حساب الشعر؟- حسنا يا صديقي العزيز، لقد نشرت في السنوات الأخيرة روايات كثيرة في العديد من البلدان العربية لأسماء مختلفة وبمضامين إنسانية متميزة، وهذا الشيء مفرح حقاً. لكن هذا لا يعني أننا الآن في عصر الرواية.فقبل أن ينتقل الغرب إلى عصر الرواية كانت قد انتقل إلى عصر المؤسسات التي تنظم حركة المجتمع وتنظم عملية تداول السلطة فيه بشكل سلمي وسلس. أما في المجتمعات الزلزالية كالمجتمع العربي حيث يتم القمع بطريقة ممنهجة، وحيث تغيب الحرية وتضيع أبسط حقوق التعبير والعيش والانتخاب عن القسم الغالب من المجتمع، وبخاصة حقوق الفقراء والمعدمين والنساء والأطفال والأقليات، وحيث تنتشر الأمية ويكافح الإنسان مستميتاً ليحصل على ما يسد رمقه من الخبز والدواء، وحيث العسكر على المؤسسات الهشة أو الضعيفة في مجتمعات كهذه تكون الكتابة الروائية ضرباً من الترف. فالروائي لا يمتلك قاعدة من القراء تستطيع شراء رواياته لتكتمل عملية الإبداع المعروفة. إنه يكتب لنفسه ولأصدقائه! هل يعقل هذا؟!* هل تعتقد في زمن التطورات العلمية والتكنولوجية والاتصالية والكتابية أن الشعر قد انتهى أو أن مهمته قد انتهت؟- لا الشعر انتهى ولا مهمة الشعر انتهت كما أراه هو اكتشاف الحياة في ومضة نادرة وبأقل عدد من الكلمات كيف ينتهي إذن؟ كيف تنتهي مهمة اكتشاف الحياة نفسها منذ قدمها السحيق تتجدد كل يوم؟ ربما يكون مبعث سؤال كهذا هو ندرة الشعر الحقيقي وهذه مسألة غير جديدة الشعر الحقيقي والعميق نادر على الدوام والغلبة في الظهور على الأكثر للنماذج غير الأصيلة للنماذج التي نعوزها الومضة النادرة في اكتشاف الحياة أو تعوزها قدرة الشاعر على تجسيد هذه الومضة بشكل عميق دونما تعقيد أو تغميض وبالتغميض أعني الغموض المفتعل وليس الأصيل.نعم إن معادلة الإبداع في الشعر صعبة حقاً وتتطلب من الشاعر خبرة حياتية وثقافية ولغوية وشعرية مع مران مستم وإيمان حقيقي بالشعر ودوره الإنساني الخلاق مع الحرص الصادق على عدم ابتذال الشعر بأي شكل من الأشكال.* ترجمت قصائد ومقالات وقصصاً قصيرة للعديد من الأسماء الأدبية المعروفة في الولايات المتحدة وأستراليا وبلدان أخرى ما هي برأيك صفات المترجم الناجح وكيف تختار العمل لتترجمه؟- صفات المترجم الناجح كثيرة أو لها تمكنه من فهم أسرار وتفاصيل اللغتين (المترجم عنها والمترجم إليها) وتفاعله بشكل إيجابي مع النص المترجم وإحاطته بظاهرة وباطنه وكذلك تمسكه بمبدأ الوضوح والسلام واللطف في كتابة النص في اللغة الجديدة (المترجم إليها) بعيداً عن التقعير والارتباك والالتباس ويحتاج المترجم الناجح إلى سعة في الإطلاع في تخصصه فلترجمة الشعر مثلا ينبغي على المترجم معرفة أساليب الشعر المختلفة عالمياً وكذلك معرفة حقيقية في الشعرية لدى اللغتين بحيث من اختيار المفردة الأقرب إلى روح النص المترجم وكتابتها على نحو يحفظ لها أكبر قدر من روحها الأصلية وأكبر قدر من الشعرية فيها ولذا قيل إن أفضل من يترجم الشعر هو الشاعر وهذه حقيقة لا لبس فيها.أؤكد - بشكل عام- في ترجمتي لشعري أو لشعر سواي على الأعمال التي تعتمد في حضورها الإبداعي على “الثيمة” أكبر من اعتمادها على مفارقات اللغة والتلاعب بالألفاظ ذلك أن “الثيمة” يمكن أن تجتاز صعوبات الترجمة بنجاح ويبقى العمل محتفظاً بزبدة جدواه الفنية أما العمل الفني الذي يعتمد في حضوره على مفارقات اللغة فدلك لا سبيل إلى ترجمته البتة كذلك أوكد قدر المستطاع على الأمانة في الترجمة مع منح القصيدة ما تستحق من شعرية دون الإساءة إلى هذه الأمانة بل الحفاظ عليها بكل الوسائل الممكنة هذه هي الخطوط العامة لأسلوبيتي في الترجمة أما التفاصيل فإنها تتطلب حديثاً له بداية وربما لا نهاية له.إن أهمية امتلاك الشاعر لناصية لغة حية إضافة إلى لغته الأم هي مسألة أصبحت في حكم البديهيات كيف يمكنك أن تتطور شعرياً دون لغة ثانية لك الإطلاع الحقيقي والمتواصل على منابع الشعر في العالم؟ كيف يمكنك أن تتواصل مع التطور الحضاري في العالم دون لغة تعينك على الاتصال المباشر مع هذا التطور أولا فأول؟ بل كيف يمكنك أن تتعامل مع مفردات الحياة اليومية وبخاصة المفردات التكنولوجية والعلمية التي أصبحت تنطق بلغة ثانية دون أن تعرف أسرار هذه اللغة الثانية؟والمشكلة بالنسبة للشاعر العربي - وللقارئ العربي قبل ذلك أكبر وضوحاً وأكثر حدة حين نتذكر أن مجموع ما ترجم إلى اللغة العربية من آداب وعلوم ومعارف الشعوب الأخرى لا يتجاوز 3-2 بالمائة من المجموع العام لتلك الآداب والعلوم والمعارف يحدث هذا والبلدان النفطية العربية تئن من فائض ملياراتها النفطية ويحدث هذا والمترجم العربي شبه عاطل والمليارات تئن إلى يوم يبعثون.* هل كانت طفولتك سعيدة؟ وكيف كان أثرها شعرياً؟- لم تكن طفولتي سعيدة بل على العكس كانت مليئة بالحزن والحرمان وقد ترك ذلك أثرا في الروح لا يمحي كما كان هذا الأثر دون شك محفزاً لكتابة ما لانهاية له من القصائد الحروفية التي تتساءل براءة عن سر الحياة ومغزاها نعم فالطفولة كالبئر التي يحق الشاعر في مياهها العميقة عله يجد نفسه أو يفهم سرها هكذا يبدو الشعر محاولة لاستعادة طفولة ضائعة والبحث عن شموسها التي غرفت في الأنهار أو البحار أو ضاعت في تجاويف الزمن ورحلته الأبدية العبثية.* نعود إلى كتاب (الحروفي) الذي تناول 33 ناقداً فيه تجربتك بالدراسة وصدر بإعداد وتقديم د. مقداد رحيم من هم هؤلاء النقاد الذين شاركوا فيه؟ وهل عمق لديك أهمية النقد للإبداع؟- النقاد المشاركون فيه هم أ.د. بشرة موسى صالح، أ.د. مصطفى الكلاني، أ.د. عبدالعزيز المقالح، أ.د. عبدالإله الصائغ،أ.د. حاتم الصكر، أ.د. ناظم عودة، أ.د. حسن ناظم، أ.د. عبدالواحد محمد، د. عدنان الظاهر عبدالرزاق الربيعي صباح الأنباري علي الفواز وديع العبيدي، عيسى حسن الياسرس د. خليل إبراهيم