من روائع أبي القاسم الشابي
دفاع صالح ناجي : يقول في إحدى يومياته(آه ياقلبي أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي)..وكان ذلك ناتجاً عن معاناته الكبيرة مع مرض القلب الذي أصيب به في سن مبكرة...الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي أوتى ملكة قوية في تصوير مظاهر الطبيعة وخلجات النفس والمشاعر الملتهبة،فجعل لمفردات الطبيعة أرواحاً وحياة..وكان يلجأ كثيراً في شعره إلى الطبيعة ومظاهرها..الغاب،. الحقول ومراعيها ، مداعبة الصخور ، مناجاة الطيور ومخاطبة الغروب والمساء..فالشعر عنده وسيلة للتنفيس ومنطلق لأشجانه وتعبير عن أحلامه التي فقدها في ظل مرضه المزمن وظروفه الاجتماعية الخاصة التي أثرت كثيراً في استقراره النفسي وجعلته في غربة روحية،والشعور بالغربة من مميزات أعماله الأدبية وذلك ناتج عن رقة نفسه وبالتالي يأسه من تحقيق آماله بسبب وطأة المرض.ففي قصيدته (الجنة الضائعة) تصوير غني لمظاهر الطبيعة التي كان يلجأ إلى محاكاتها حين تهيج به شجون الذكريات وتزدحم صور الماضي ويشدّه الحنين إلى الطفولة ..عذوبة العيش والظل الظليل من لفح الحياة وهجيرها..يأخذنا الشابي معه في رحلة رائعة إلى(جنته)التي كان يعيشها في ذلك العهد العذب(الفضي)الأسحار و(المذهب)البكور- كما يصفه-..كم من عهود عذبة في عدوة الوادي النضيرفضية الأسحار مذهبة الأصائل والبكوركانت أرق من الزهور ومن أغاريد الطيوروألذ من سحر الصبا في بسمة الطفل الغريريأخذنا الشاعر إلى ذلك العالم الساحر الرقيق رقة الزهور..وبسلاسة شعره المعهودة نجده يصف لنا مظاهر الطبيعة في جنته المفقودة وكيف كانت حلاوة أيامه في طهارة الموج وسحر الشاطئ ووداعة العصفور وجداول الماء وبسمة الطفل وأناقة النحل وأغاني السواقي وروعة النهر الكبير..أيام كانت للحياة حلاوة الروض المطيروطهارة الموج الجميل وسحر شاطئه المنيرووداعة العصفور بين جداول الماء النميرأيام لم نعرف من الدنيا سوى مرح السروروبناء أكواخ الطفولة تحت أعشاش الطيورمسقوفة بالورد والأعشاب والورق النضيرنبني فتهدمها الرياح فلا نضجّ ولا نثور
وكقراء لا نملك ونحن نقرأ أبيات هذه القصيدة إلاَّ أن نمضي مع الشاعر ونركض خلف أسراب الفراش المستطير ونمر بين المروج الخضر ونرقب البلابل وهي تشدو للحياة في زهو الشفق الجميل..فقد أمتاز شعره بالعذوبة والسلاسة والتدفق الشعري والتعابير الأنيقة والسهلة الخالية من الغموض،فيلتمس فيه الملتقي حساً وعاطفة وبالتالي يتجاوب معه ويعيش عالمه..أيام تفرش سبلنا الدنيا بأوراق الزهوروتمر أيام الحياة بنا كأسراب الطيوربيضاء لاعبة مغردة مجنحة بنورأيام كنا لب هذا الكون والباقي قشوروقد استطاع الشابي في قصيدته تصوير كل مغامرات الطفولة البريئة في لوحة تصويرية فنية جميلة وكأننا نرقب أمامنا أولئك الأطفال وهم يعبثون بكل ما أمامهم..ليس لهم هدف سوى اللهو واللعب والمرح..ونظـــل نعبث بالجليــل مــن الـــوجـود وبــــــالحقيربالسائل الأعمى وبالمعتوه والشيخ الكبيربالقطة البيضاء بالشاة الوديعة،بالحميربـــــالعشب بالفنــن المنـــــــور،بالسنابـل،بالسفيـــــربـــــالرمــــــل،بالصخــر المحطــــم،بالجداول،بالغديرواللهــــو، والعبث البــــريء الحلـــو مطمعنــــــا الأخيروبعد أن رحل عنه عهد الطفولة والصبا أصبح يحيا مرهق الأعصاب،متأجج الإحساس،تؤرقه كل صغيرة وكبيرة،وفي تصوير رائع يصف حجم معاناته(تمشي على قلبي الحياة ويزحف الكون الكبير)..وهكذا هو أسلوب الشابي يأخذنا بخفه إلى عالمه(الرومانتيكي)المسحور ويمر الوقت وتمضي بنا الرحلة إلى نهايتها..ويغادر الحلم ولكن تظل الحواس لا تستفيق من تلذذ تلك النكهة التي اقتحمت الوجدان بما تضمنته من حيوية الصورة وتوهج العاطفة...هذا حصادي كله في يقظة العهد الأخيرقد كنت في زمن الطفولة والسذاجة والطهورأحيا كما تحيا البلابل والجداول والزهورلا نحفل الدنيا تدور بأهلها أو لا تدورواليوم أحيا مرهق الأعصاب مشبوب الشعورمتأجج الإحساس أحفل بالعظيم وبالحقيرتمشي على قلبي الحياة ويزحف الكون الكبيرهذا مصيري يابني، فما أشقى المصيروهكذا كان حصاده الأخير بعد أن ضاعت(جنته)وبعد أن ترك فينا أثراً بالغاً لروعة المباهج في ظل بدائع الطبيعة التي عاشها في قصيدته الرائعة..فالشعر كما يقول الشابي هو ما تسمعه وتبصره في ضجة الريح وهدير البحار وفي نسمة الورد الحائرة يدمدم فوقها النحل ويرفرف حولها الفراش،وفي نغمة مرددة يرسلها الفضاء الفسيح...
![](https://14october.com/uploads/content/0901/7SWPMLVH-X7RWB7/F0001649.jpg)