لا يشك أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جمع الله له الحكمة كلها.. في قوله وفعله وحكمه ودعوته .. قال تعالى : ((ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً )) ، وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : ( أوتيت جوامع الكلم ) ! . وكان كذلك هو الإمام الذي يصلي بمن صحبه من أمته الصلوات المكتوبة وهو الذي يقوم بهم خطيباً في جمعتهم وعيدهم وسائر المواقف التي تستدعيه لوعظهم وإرشادهم والحديث إليهم ! . وكان مسجده - عليه أفضل السلام - جامعاً في المدينة لم تبن بعده مساجد تجاوره باستثناء (( قباء )) الذي بني قبله أثناء مسيره - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة في أول هجرته إليها . وجاء الخلفاء من بعده فساروا على سنته في تولي الخطب في الأمة وما قد يسمى بـ « مركزة المساجد » .. وتضييق تعددها .. حتى لا يتفرق ذوو الأهواء والراغبون في الخروج على السلطان على تلك المساجد المتعددة فيفسدون على الخلافة أمرها !! .. وإذا كان بناء المساجد من علامات الإسلام وشعائر الإيمان كما في قوله - سبحانه - من سورة التوبة : (( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر و أقام الصلاة وآتى الزكاة .. ولم يخش إلا الله .. فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )) .. وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة « أي كعش بيض الطائر» بنى الله له بيتاً في الجنة)! .. وهو حديث صحيح رواه جمع من الصحابة منهم عثمان بن عفان وعبدالله بن عمر وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين ! . إلا أن المدنية المعاصرة .. أضحت هماً صاحب أضخم تجمع بشري وحضاري عرفه تاريخ الإنسانية ! توسعت فيها المدائن .. واشتبكت الاتصالات .. وضاقت الانجازات عن الوفاء بالحاجات ! .. وبلغ عدد المساجد اليوم في المدينة النبوية أكثر من ثلاثمائة مسجد .. وهو رقم يتصاعد في المدن والعواصم الإسلامية بشكل متزايد وسريع .. وهذا التزايد يستدعي موارد البشر من كهرباء وماء وخدمات تصريف صحي .. ما يشكل عبئاً ضخماً يستحق المسئولون عليه تقدير جهودهم.. والتجاوز عن عيوب تقصيرهم ! .. ولكن هذه الأعباء المادية لست بصدد تفصيل الحديث فيها في هذه العجالة المحدودة.. بيد أن ثمة هماً آخر.. يشكل تهديداً لسلامه منهج الدعوة إلى الله .. يتولد من التوسع العشوائي أو غير المدروس في بناء أو استحداث المساجد في الأحياء المدنية .. هذا الهم بات يؤرق جفون المسؤولين الذين يجابهون مشكلة النقص الحاد والمستمر في الدعاة الواعين .. الدعاة الذين يعرضون الإسلام بصفائه ونقائه ومبادئه المثالية التقدمية والتي تساهم في صياغة جيل قوي ناصح بعيداً عن التطرف وثقافة العنف ويؤمن بالمحبة وإنهاء الطريق إلى الله كما كانت طريق الأسلاف من الأنبياء والعلماء والدعاة !! . وهذه المشكلة عندما تم تجاهلها لم ترحم أحداً .. ولم تعف أحداً في جهله أو مسؤوليته .. فقد تسببت بالضرورة بأن يعتلي المنابر من لا يقدر للكلمة قدرها .. ولا يعرف كيف يدبر في الشريعة أمرها ! .. وأضحى أكثرهم على المنابر كغوغاء الأسواق ! .. منهم ذو الحديث الممل ! .. ومنهم الثرثارون المتشدقون المتفيقهون ومنهم الأميون في العلم والفقه ولا حرج ! .. ومنهم خطباء الفتنة وأبواق الأحزاب التي ندبتهم لتسخير المنابر والدعوة إلى مدارسها السياسية الضيقة والمتقمصة بثوب بال كريه مصبوغ بالدين تزمتاً وبهتاً !! . وأضحى هؤلاء المساكين الذين سمح بوجودهم وانتشارهم غياب التأهيل العلمي للدعوة والدعاة والمرشدين .. أضحوا يملأون أكثر المنابر وحلقات التعليم الديني .. حتى والله كأني أرى اليوم رأي العين ما قاله بالأمس شيخنا العلامة - محمد بن سالم البيحاني رحمه الله . :[c1]تصدر للتدريس كل ميهوس جهول تسمى بالفقيه المدرس وحق لأهل العلم أن يتمثلوا بقول قديم شاع في كل مجلس لقد هزلت ! حتى بدا من هزالها كلها « أي كليتها » وحتى استامها كل مفلس [/c]وإذا كان هذا الغياب للتأهيل في الأزمنة السابقة مصدراً للقلاقل والفتن التي عصفت بدولها فإن هذا التأثير لم يزل محافظاً على نوعه ! مع فارق تطور اوضاع العصر وتفوق الخدمات .. فهو اليوم يشكل خطراً على تشكيل الوعي عند ناشئة الجيل .. ويفرز خطاباً اما مضطرباً « عن جهل » وأما مسموماً « عن غرض » يزيف وعي الناس !! ويشوه كل الملامح الجميلة للإسلام كدين كانت تعاليمه كلها مصدراً للحب والأمن والعزة والرفاه ! . وعودة إلى صلب الموضوع .. فإن زيادة عدد المساجد دون دراسة .. والسماح بانتشارها عشوائياً بما يتناقض ومستوى الحاجة إليها .. قد أفرز ضعفاً ملحوظاً في سيطرة الدولة عليها ! .. فلم تعد قادرة على ضبط مستوى صوت المكبرات التي أضحت مصدر إزعاج فاق كل تصور ! .. وكأن القائمين على هذه المساجد ليسوا البشر .. ولا جاؤوا من الأرض ! يعانون الذي يعانيه المتأذون منهم ! . وما ذلك إلا بسبب النقص في التأهيل والهيمنة العشوائية على المساجد.. وعدم القدرة على سد النقص المستمر الذي يحدثه هذا الاتساع العشوائي فيها ! .. ثمة شيء آخر .. ان اكثر هذه المساجد تبنى دون أوقاف لها تفي بمصاريف العاملين عليها ! .. وهو خطأ فاحش ورغم توجيهات فخامة الأخ / رئيس الجمهورية بعدم السماح ببناء مساجد دون أوقاف لها .. إلا أنه لم يجد هذا التوجيه رغم صدوره من أعلى سلطة نافذة في البلاد طريقه إلى التنفيذ بسبب العجز المستمر في مواجهة التوسع المستمر في بناء المساجد دون دراسة شاملة لما يتطلبه بناؤها ! . نأمل من جميع المختصين .. وفي مقدمتهم وزارة الأوقاف والإرشاد وفروعها أن يتدبروا هذا الأمر بكل اهتمام ويولونه عناية خاصة حتى نرى ثمار أعمالهم بادية للعيان !! والله المستعان .
أخبار متعلقة