فالاجتهاد اليوم هو اجتهاد تجديد متسلح بالمعرفة والعلم، لا على تقليد السابقين وظروف عصورهم، التجديد والاجتهاد اليوم يقوم على الابتكار ومجاراة التطور المادي والفكري الذي وصلت إليه الإنسانية اليوم. والإسلام هذا الدين إذا ما آمنا بصلاحه لكل زمان ومكان وفهمناه فهماً جلياً فإننا لن نختلف حين نقول إنه لا يخالف ولا يتناقض مع المنجزات العلمية الحديثة، وإننا إذا ما آخينا بين الدين والاحتكام إلى العقل فإننا لن نبقى تحت أسر التخلف والتقليد.يقول الإمام محمد عبده بهذا المعنى : (لابد من اجتهاد يعتمد على الدين والعقل معاً حتى نستطيع أن نواجه المسائل الجديدة في المدينة الجديدة، ونقتبس منها ما يفيدنا .. لأن المسلمين لا يستطيعون أن يعيشوا في عزلة .. ولابد أن يتسلحوا بما تسلح به غيرهم .. وأكبر سلاح في الدنيا هو العلم، وأكبر عمدة في الأخلاق هو الدين .. ومن حسن حظ المسلمين أن دينهم يشرح صدره للعلم ويحض عليه .. وللعقل ويدعو إليه، وللأخلاق الفاضلة التي تدعو إليها المدنية الحاضرة).وإن أسوأ ما يمكن اعتباره تخلفاً ورجعية هو استمرارية سطوة الجهل على العلم، وسطوة النفس على العقل .. أي سطوة المرء على نفسه، مع أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان حراً .. وجعل منه سيداً على الأرض يقوده العقل .. وخلق له إدراكاً ليهتدي به من ربقة شرور الجهل وما فيه من هلاك بكل صنوفه.خلق الله الإنسان منفصلاً غير متصل بغيره ليملك زمام اختياراته ومنحه قوى إدراكية تمكنه من التعرف على واقعه وعلى ما يحيط به .. وأعطاه دفعات قوية إلى الأمام بتحريره من كل قيد قد يشل فاعليته ويرفض جموده، وأنه ليس هناك من شيء يعيق تطوره الإنساني بما أنزل الله عليه من سلطان المعرفة .. لأن الدين الإسلامي دين مبني على العقل المحض، أي أنه الدين الذي يقوى الإنسان على فهمه من خلال كتاب الله وسنة رسوله .. دين غير مقيد الفكر بتأويلات الفصاحة وعلم الكلام والتأويل او الفرضيات .. لذلك فإنه لابد أن يكون قادراً على حماية الفكر من الوقوع في مصيدة رجل دين عاجز خرف .. بل ويمكنه حفظ النفس من الشطط .الإسلام قوة في تهذيب الأخلاق (وإنك لعلى خلق عظيم... الآية) .. (أدبني ربي فأحسن تأديبي.... الحديث)، ومعين لا يثقله وهن عن تحمل مشاق الحياة .. وأن فيه من المدد ما يقوي الإنسان على أعظم المهمات الإنسانية وإن كبر شأنها وخطرها، دين في قيمه وحكمه ما يثبت النفس .. بل أصبح مقياساً يستدل به على الأحوال النفسية في المجتمعات عند تقييم رقيها أو انحطاطها.واليوم .. لا أخال أن صحوة المسلمين ومناداتهم بتجديد خطابهم الديني بدعة .. بل هي صحوة قديمة جديدة كانوا قد أكدوا عليها حين تنادوا إلى مؤتمر النهضة الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة عام 1316هـ وشارك فيه من علماء المسلمين عرب وعجم حين رأوا أن الإسلام قد أصابته خلال أربعة عشر قرناً فتنتان عظيمتان ولولا قوة أساسه البالغة فوق تصور العقل لما ثبت هذا الدين الحق إلى يومنا هذا وإلى يوم البعث.الفتنة الأولى : أن الله سبحانه وتعالى قد قدرها ومضت على وجهها حين تشاجروا واختلفوا في الخلافة والتوريث، وانقسموا على أنفسهم فتواجهوا يقتل بعضهم بعضاً، وتفرقوا في الدين لتفرقهم في السياسة.وأما الفتنة الثانية : فهي مستمرة لم تنطفئ نارها بعد منذ عهد خلفاء بني أمية وبني العباس حين مالوا إلى تعميق النظر في العقائد، فساعدهم وأيدهم من علماء عصرهم من أهل فارس تقريباً إليهم في علم الكلام .. حتى كثر القيل والقال، ثم سرت العدوى إلى المناظرات في الفقه وبيان الأولى في المذاهب، وزاد اهتمامهم بالتدقيق والجدل في الخلافات بين الإمامين أبي حنيفة والشافعي رضوان الله عليهما .. وأثاروا بينهما فتنة عمياء وحرباً صماء، فأكثروا التأليف والتصنيف .. وكل مؤلف سعى إلى أن يقدم الجديد مما عنده ليظهر للناس فضله، ولينال حظاً من الشهرة، مدعياً وزاعماً أنه ليس له غرض سوى استنباط دقائق الشرع، فتزاحموا وتجادلوا وناقض بعضهم بعضاً، ولسوء حظ بعض أصحاب النوايا الحسنة أنهم شاركوهم في فتنتهم دون أن يتوخوا عواقبها .. وهكذا اتسعت دائرة الأحكام في الشرع وكثرت الفتاوى .. حتى صرنا اليوم عاجزين عن التقاط الفروع فضلاً عن الرجوع إلى الأصول، وإذا بأغلب علمائنا اليوم مقلدون .. تقليداً صرفاً حتى في مسألة التوحيد التي هي أساس الدين ومبدأ الإيمان واليقين، والفرق بين الكفر والإيمان .. فإذا بنا نراهم كالعميان لا يميزون الظلمة من النور ولا الحق من الزور، غير مكترثين بتبيان ما تحتويه بعض المؤلفات والتمحيص في محتوياتها، لأنهم رأوا أن التسليم بها أو السكوت عنها أهون لهم، وأن التقليد وإن كان على (عواهنه) يستر لهم جهلهم وينأى بهم عن لومة لائم فإذا بهم فرق وشيع يتعصبون لما ورثوه عن (أئمتهم) وشيوخهم ويتخذون من الخلافات متارس لفتاواهم وتأويلاتهم وتطبيق الأحكام وفقاً لأهوائهم دون شعور منهم بجسامة ما يحملونه من أثقال العامة في دينهم، حتى وإن خالفوا ظواهر النصوص متوهمين أن الاختلاف بين أئمة المسلمين إنما هو رحمة للأمة!!وإنني لأزعم وأقر بهذا المبدأ في اختلاف الاجتهاد إذا ما حسن العمل به، ولكنه يكون نقمة وابتلاء إذا كان من ورائه البلبلة بين الناس في فهم الشريعة والفقه أو أن يكون سبباً للتفرقة الدينية أو المذهبية أو التباغض والإساءة وسوء الظن بين أبناء الأمة أو بين أبناء الوطن الواحد.
أخبار متعلقة