لم يقتصر ترتيب الجزاء في الإسلام والإيمان على أداء الفرائض الشرعية أو إضاعتها فقط ، وإنما رتب الإسلام الجزاء كذلك على الأبعاد الإنسانية للقيم والمثل والأخلاق سلباً أو إيجاباًً، وهو باب عظيم يستحق الوقوف عليه وتأمله ببصيرة ثاقبة تعكس وزن هذه الاعمال العظيمة في كل زمان ومكان .فهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " دخلت امرأة النار في هرة حبستها ، فلاهي اطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض " .وهذه بغي من بغايا بني إسرائيل وقد أدركت كلباً يلهث ويدور حول بئر قد أهلكه العطش ، فتحركت بواعث الرحمة في نفسها ، فنزعت خفها ، ونزلت البئر وملأته ماء ثم أمسكته بفيها وسقت ذلك الكلب العطشان ، فغفر الله لها !! .هذا المصير المتباين للمرأتين يقرر بصراحة أن في النفس البشرية بواعث ومشاعر تستحق التقييم والتمييز اللذين يسحبان عليها استحقاق الجنة أو النار .وهذا التأكيد يسلط الجزاء ـ كما نرى ـ على أبعاد إنسانية للقيم والمثل العليا ، ويجعله يدور معها حيث دارت .. كما يحرك بواعث الخير نحو الأمل في الفوز بفضل الله ، ويكبح جماح انحراف الضمير وتهاوي الفضيلة عن الوقوع في سخط الله !!كما يرفض "لف ودوران" الشروح والتأويلات الجامدة ـ إذا جاز التعبير ـ والتي تضع الشروط والعراقيل وهدفها جعل هذه الأبعاد الأخلاقية هامشاً من هوامش العبادات والأعمال المطلوبة من البشر ..!! .وهذه فريضة الحج ، وقد فرضها الله بقوله : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة " .. وقال : " من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وأمام هذا الإغراء العظيم لهذه الشعيرة المقدسة وجدت الإمام الحبر العظيم عبدالله بن عباس رضي الله عنه يقول : " لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة ـ أي أسبوعاً ـ أو ما شاء الله أحب إلي من حجة بعد حجة ".لقد أدرك ابن عباس رضي الله عنه أن بلوغ درجة الإحسان عن طريق تفعيل المشاعر الإنسانية النبيلة وقيم الإحساس بالآخرين بتحقيق مساعدة الناس المعدمين أرقى وأرفع من بلوغه في تكرير الشعائر والعبادات الربانية مرة بعد مرة .فالصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ، لا ترفع أصحابها عند الله إذا كانوا قساة القلوب ، جفاة الطباع ، لا تعرف بواعث المعروف مكاناً في نفوسهم ، ولا يظهر لها أثر في أفعالهم ..وابن عباس رضي الله عنه إنما أراد تصحيح النظر لمن رأوا إنفاق المال في فريضة الحج عاماً بعد عام دون تنويع استثمار الإحسان في فضائل الخير، وإشباع المعدمين ، ومواساة المحتاجين .ولذة صنائع الخير في الإنسان إنما هي بإحساسه بوجوده كانسان وهو يرعى من يستحقون رعايته ويترك سيرة فاضلة صالحة لأن يقتدى بها وهو يتمثل قول الصالحين في كلام الله : "... واجعلنا للمتقين إماما " .
اصطناع المعروف !!
أخبار متعلقة