أضواء
طالما أكّدت، وخاصة إبان فورة الإرهاب لدينا، أن التكفير ليس حالة طارئة، ولكنه متجذر وراسخ في التقليدية الحشوية التي يرجع إليها المتطرفون والمتزمتون. إنه تكفير ملتهب بالحيوية الدائمة، قد يتوارى، وربما يعود إلى جحوره المظلمة كما هي الأفاعي، ولكنه يبقى نابضا بالحياة، ومستعدا لغرس أنيابه المسمومة في أي جزء من أجزاء الجسد المجتمعي؛ حسبما تسمح به الظروف!. إنها إيديولوجيا تتلون بشتى الألوان، وقادرة على الظهور بكثير من الأقنعة المُوهِمة، ولكنها تبقى في أصول قناعاتها وفية غاية الوفاء للتكفير. إن التقليدية التي قامت هويتها بل ووجودها على المفاصلة والتمايز بواسطة مفردات التكفير، التقليدية التي بَنت أُسسها على تكفير كل مخالف بها من المسلمين، يستحيل عليها أن تنقلب في بضع سنوات إلى خطاب اعتدال وتسامح، ولو على مستوى التعايش المدني الذي يكفل الحقوق للجميع. لا تستطيع التقليدية، حتى ولو تُرك لها حق الاحتفاظ بتراثها التكفيري الذي تراه عقائد أساسية لا يمكن التنازل عنها، أن تتفهم إمكانية الحياة رغم الاختلاف تحت سقف وطن واحد، وطن يكفل حقوق الجميع بحدود التساوي المدني. لا تستطيع التقليدية ذلك؛ لأن التكفير لديها ليس مسألة لاهوتية خاصة ومعزولة عن الواقع، أي ليس مجرد رؤية نظرية للمخالف، وإنما هو لديها مقدمة ضرورية للإقصاء والنفي والظلم الذي يصل حد استباحة الأموال والأعراض والدماء!. بعد أن كشف التكفير عن قناعه في السنوات القليلة الماضية بواسطة التفجيرات الإرهابية التي هددت الجميع في حياتهم على نحو غير مسبوق، اضطر خطاب التكفير إلى التواري، بل وبدون خجل، إلى طرح نفسه أحيانا كخطاب اعتدال. حدث هذا تحت وقع سنابك الأحداث الدامية. بسبب هذه الأحداث؛ لم يعد بإمكان التكفيري التصريح بالتكفير، أصبح يكتفي بالتلميح دون التصريح ؛ خاصة بعد أن أدرك حجم ما خسره من مواقع بسبب اتكاء الإرهابيين على مقولاته في التكفير. كان سدنة الخطاب التكفيري (= المُكفراتية) يدركون أن تشديدهم على المفردات التكفيرية من شأنه أن يؤدي إلى نفور جماهيري واسع منهم. ولا بد من التأكيد على أن الجماهير لم تستبطن النفور من التكفير إلا بعد أن شنَّ الخطاب المدني التقدمي حملة ثقافية واسعة على الإرهاب العملي وعلى المكونات الخلفية لخطاب الإرهاب، دونما خوف أو مهادنة لإيديولوجيا التكفير والتفجير. هذا على الأقل ما فعله كثيرون. وكان نتيجة هذه الحملة الواسعة والمكثفة من قبل دعاة التنوير والتسامح، أن أصبحت معظم الشرائح الاجتماعية تنفر من تهمة التطرف، وتتوجس من التشدد، وتعد الإرهاب عارا على منفذيه وعلى مؤيديه ولو تأييداً بالصمت. أدرك المكفراتية مأزقهم. كان باستطاعتهم تحمّل أعباء الترصد الأمني، وكانوا على استعداد لتقديم كثير من التضحيات من أجل إبقاء شعلة التكفير متقدة في أذهان مغفلي الجماهير. لكنهم لم يستطيعوا تحمل أن يكونوا محل نبذ اجتماعي واسع، خاصة بعد أن تحولوا في نظر كثيرين إلى خوارج مارقين، حتى ولو تم وضعهم في خانة: قعدة الخوارج. يصعب على من اعتاد التبجيل الذي يصل حد التقديس أن يجد نفسه بين عشية وضحاها مُتّهما بأنه مجرم خارجي مارق من الدين الذي يدعي الحفاظ عليه. كان على المكفراتية أن يذعنوا للعاصفة التنويرية ريثما تخف درجة التوجس من التكفير بخمود نيران الإرهاب. لم يستطع المكفراتي تحمّل كل هذا الصمت ، لم يستطع تحمّل أن يجد نفسه ممنوعا بقوة الضغط الرسمي والاجتماعي عن ممارسة عشقه الأول والأخير: التكفير. أحرقه لسانه من الداخل، وكادت خلايا مُخّه المُفخخ بمقولات التكفير أن تتفجّر من الداخل. وضع صعب، يستحيل على من لم يقرأ ترسانة التكفير الموجودة تراث التقليدية أن يتصوره. بعد أن قرأت الأغلبية الساحقة من الكتب والمذكرات العقائدية التي يتكئ عليها التكفيريون في التشريع للتكفير، وهي بالمئات، وبعضها بعشرات المجلدات، بدأت أشفق على هؤلاء من هول ما يعانون من ألم الصمت عن التكفير. من يقرأ كل هذا الطوفان من التنظير للتكفير الموجود في كتب التقليدية، وهو يعتقد بصحته المطلقة، ثم يستطيع ضبط نفسه عن التكفير والتفجير، فهو إنسان خارق، إنسان ينتمي إلى وُجود آخر، وإلى تركيب عقلي آخر!. لا بد لمن يقرأ كل هذا الغثاء، ويُقرّ بصوابيته عقائديا، أن يمارس التكفير، سواء صرّح به، أو اكتفى بالتلميح، أو توارى خلف مصطلح تكفري يقتضي الحكم التكفيري نفسه، لا بد أن يجد نفسه ممارسا للتكفير؛ حتى ولو كان مجرد اعتقاد في الضمير. لا بد أن يجد متنفسا للتكفير. وأنا أقترح جادا ولست مازحا إنشاء قنوات إعلامية، وصالات كبرى مزودة بأكبر وسائل تكبير الصوت؛ ليمارس التكفيري من خلالها هوايته في التكفير؛ ليجأر بأعلى صوته، وفي كل اتجاه، بالتكفير الصريح ( = كاااااافر، يا كاااااافر، هؤلاء كفاااااار.. هذا منااااافق هذا زندييييييييق، هذا فااااااااجر ..إلخ ) ولا بد أن تكون هذه الوسائط قد تم تصنيفها لكل من يصل إليه تأثيرها، بأنها فضاءات إعلامية خارج المعقول، لا بد أن يعرف الجميع أنها فضاءات إعلامية وضعت لمجرد البوح العلاجي، أي لا بد من التأكيد على أن كل من يستخدمها هو في حالة (رفع القلم عنه) لا يقع تحت أية مسؤولية دينية أو قانونية أو أخلاقية، وأن يتم وضع علامة (حمراء) طوال فترات البث؛ ليكون المتلقي تحت مسؤوليته الخاصة. أدرك أن هذا لن يحل كل المشكلة (= مشكلة التكفير)، لكنه سيخفف منها، وسيمنعها من الانفجارات العشوائية بين الحين والآخر، تلك الانفجارات الجنونية التي تتسبب في كثير من الإرباك الديني والأمني والسياسي، والتي ستبقى ما دام المرض التكفيري تتم تغذيته بتراث تكفيري عريض. إن المكفراتي هو أول من أدرك استحالة هذا الصمت بعد كل ذاك الشحن التكفيري الطويل. بالحدس الطبيعي، أدرك المكفراتي أن الصمت بعد كل هذا الشحن هو نوع من الكبت الذي سيؤدي إلى العُصاب. ما نراه من (فلتات) التكفير في بعض المناسبات التي تستدعي الصدام العقائدي، هو نوع من التنفيس عن عقائد تكفيرية (= خوارجية) يصمت عنها التكفيريون رغبا أو رهبا ولكنهم لا يتنازلون عنها بحال. أبناء خطاب التكفير، لا يستطيعون العيش بلا تكفير، وبل ولا يتصورون للحياة معنى بدونه. ليس من المستغرب أن يفضح بعضهم نفسه بإلقاء تهم التكفير حتى على رموز الإسلام، بل المستغرب أن يستطيعوا ضبط أنفسهم كل هذه الفترة الحرجة (ما بعد تفجيرات 11/9). أذكر أن أحد هؤلاء، ممن ضبط نفسه عن التكفير، واكتفى طوال الفترة السابقة بالتركيز على التشدد في الفقهيات، وطرح نفسه كمعتدل وسطي!، سألته امرأة قبل بضعة أشهر، وعلى برنامج افتائي شهير، عن حكم استقدامها لخادمة مسيحية. ظن الرجل أن فترة الصمت قد ولت، وأن أوان الكلام قد حان. لقد كان جوابه أنه لا يجوز لها أن تسكن تحت سقف واحد مع هذه الخادمة المسيحية. قال صراحة: كيف يُظلّك سقف واحد مع امرأة تُحادّ الله ورسوله ( السائلة لم تذكر إلا أن ديانة الخادمة مسيحية، فما معنى المُحادة هنا؟) قال: ألم تسمعي قول رسول الله: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب؟. ثم تساءل: أين الولاء والبراء؟، وذكر أنه يخاف على عقيدة السائلة إذا ما رضيت بذلك. وهذا وضعها على شفا الكفر الصريح. ليس هذا وأمثاله استثناء. جميعنا يرى الآن ويسمع كيف يُمارس التكفيريون التنفيس عن مخزونهم التكفيري باتهام كل من يختلف معهم في القليل أو الكثير بالنفاق. الاتهام بالنفاق العقدي، هو اتهام صريح بالتكفير، بل بأشد درجات الكفر (الدرك الأسفل من النار). أصبح التكفير يُمارَس علانية، بواسطة المُنفقاتية (= المتهمون لمخالفيهم بالنفاق)، واتسعت دائرته جدا، فأصبح المنفقاتية يتهمون معظم رجال الإعلام، والأغلبية الساحقة من المثقفين، وكثير من المسؤوليين الإداريين بالنفاق، أي بالكفر الصريح. بل وصلت تهمة النفاق درجة واسعة من الرواج عند تيار التطرف والتكفير، إلى حد أن يرمي بها التكفيريون المُنفّقاتيون اليوم كلَّ مخالف لهم، حتى طالت التهمة من يختلف معهم من داخل الخط التقليدي، بل حتى ولو كان الاختلاف بينهم وبينه على تفاصيل خلافية، تتسع لها حتى صدور الخوارج الصرحاء. من يتأمل خطاب المنفقاتية، يجد أنهم ليسوا من الخوارج فحسب، بل من غلاة الخوارج. تهمة التكفير تحتاج على الأقل ولو لمفردة عقائدية متأوّلة يتم التكفير بواسطتها. أما الاتهام بالنفاق ، فلا يحتاج أيّاً من ذلك، فالنفاق من مكنونات الضمير. ولهذا يسهل الاتهام به، وتوجيهه لأي أحد؛ مهما كانت درجة تدينه. إذن، لا بد أن يدرك الجميع أن المنفقاتية أشد غلوا في التكفير من الخوارج الإرهابيين الذي عرفوا من قِبل الجميع بالتكفير. وكما أن الاتهام بالنفاق هو نوع من التنفيس عن المخزون الهائل من التكفير الذي غُذي به المكفراتية، فكذلك الاتهام بالزندقة، أو بمحاربة الإسلام ...إلخ. المُنفقاتية والمُزندقاتية هم الأبناء الشرعيون للخطاب التكفيري، وعلاقتهم به علاقة تناسل طبيعي!. التكفيري إن لم يكن تكفيريا فسيكون مُنفقاتيا، وإن لم يكن منفقاتيا فسيكون مُزندقاتيا، وإن سمحت له الظروف بأن يكون جميع هذه المفردات التكفيرية فسيكون كذلك، وسيكون سعيدا بذلك!. التكفيريون الطائفيون، يجدون سعادتهم في إشعال فتيل الطائفية؛ لأن هذا سيخلق ظرفا مناسبا للصراخ علانية بتهم التكفير والنفاق والزندقة، أي سيجدون متنفسا للمخزون الهائل من التكفير والكراهية الذي تشبعوا به عشرات السنوات. حتى الحروب المدنية، يسعون لتحويلها إلى حروب طائفية؛ بعيدا عن الوعي بالتداعيات السياسية الخطيرة التي قد تُعرّض لحمة الوطن الواحد لخطر يهدد مستقبل الجميع. التكفيريون الطائفيون لا يهمهم الوطن حقيقة، بل كل ما يهمهم التمكين للتقليدية التكفيرية التي يعتنقونها. حقيقة، لا يهمهم الوطن، ولو قاموا بالتمثيل علينا، بل حتى ولو شاركوا تمثيلا في جبهات القتال بدعوى الدفاع عن الوطن. التكفيريون الطائفيون يشاركون من مبدأ طائفي، وليس من مبدأ وطني، ولا يهمهم الوطن في قليل ولا كثير؛ بدليل أنهم لم يلبسوا الأزياء العسكرية، عندما كانت المعركة مع التكفيريين الإرهابيين، لم يقفوا آنذاك مع رجال الأمن في نقاط التفتيش الخطرة؛ لأنهم يعون أن الإرهابيين من نفس التيار التقليدي التكفيري الذي يعتنقون مبادئه، ويسعون للتمكين له في الواقع. لم يشاركوا في الحرب على الإرهاب؛ لأنهم كانوا يخشون أن يتسببوا بطريق مباشر أو غير مباشر في إراقة قطرة دم واحدة لأحد الإرهابيين الذين كانوا يضربون الوطن في العمق. وهذا عندهم من نواقض الولاء والبراء. لكن، عندما يكون الطرف المعتدي على الوطن ليس من ذات التيار، بل وخاصة عندما يكون المعتدي من طائفة أخرى!، فهم مستعدون لخوض المعركة، ولو بالكلمات الحمقاء، الكلمات التي كان يجب على الطرف الآخر أن يتجاوزها، وأن يعدها مجرد (كلام نواعم !).[c1]عن/ صحيفة “الرياض” السعودية[/c]