قصة قصيرة
لقاء المغيب في المسجد مهيب لا يشبه بقية اللقاءات ، وصراخ الناس وعويلهم بعد الصلاة يزداد وطأة ويقتحم مسامع المصلين فما أن يعلن إمام المسجد عن نهاية الصلاة حتى تتعالى أصوات بعض الناس ويكثر عويلهم ونحيبهم اطفالاً ونساءً وشيوخاً كل يشرح مأساته ومعاناته داعياً المصلين إلى مساعدته على مجابهة غضب الحياة وانكسار المعيشة هو لا يصرخ مثلهم ولا يردد عبارات وأدعية.. ينهض من سجوده وينسل من بين المصلين كالأفعى منتحياً زاوية بعيدة بالقرب من باب المسجد يفرش عمامته الرثة ، ويجلس القرفصاء عاقداً ذراعيه حول ركبتيه ويبقى صامتاً ، يحرك عينيه فقط ويراقب النقود وهي تهبط على العمامة. عندما يلمح الظلام في خارج المسجد يتيقن أن مساءه قد أوشك عندها يجمع نقوده حاملاً عمامته على كتفه ويلفظه المسجد إلى الخلاء يهرول ماراً بأزقة المدينة وشوارعها شارد الذهن منشغلاً لا يسلم عن من وجده في طريقه ينحني فقط إذا رأى علماً يرفرف فوق احد المباني الضخمة مؤدياً له التحية...بابتذال كما يفعل بعض ( المجانين) مردداً :« الثورة تخدمنا ونحن يجب أن نخدم الثورة..كنت أراه وقت الغروب لا يخوض مع سائر المصلين سوى هذه الصلاة... وبعدها يمضي إلى العراء منفلت الخطى في يده مذياع قديم وعلى كتفه عمامته المعهودة كانت الغربان تتعقب خطاه في تظاهره وصخب ويزداد نعيقها كلما اقترب من الشجرة الكبيرة الرابضة في الصحراء.. كان يخيل إلي أن الغربان ستمزقه بمناقيرها إذا لامس غصون تلك الشجرة ، ومع ذلك فقد سار نحوها واقترب منها شيئاً فشيئاً غير عابئ بالغربان حين كان على مقربة منها اشتد نعيق الغربان أكثر واقتربت بأجنحتها من رأسه وزاد خوفي غير أن فروع الشجرة حالت بينه وبين جموع الغربان فقد انحنى نحو جذع الشجرة ملتمساً بطانيته المهترئة وعندئذ حلقت الغربان في السماء واستقرت في أعلى الشجرة .. وتمدد على البطانية واضعاً المذياع بجانبه وراح يحرك عجلته برفق يجول ويصول متنقلاً بين البلدان .. حشرج المذياع وعلا صوت المذيع فصمتت الغربان .. وردد المذيع:» أيها المستمعون لقد قامت مجموعة من البغاة بقطع الطرقات وقتل الأطفال والنساء كما قامت مجموعة من اللصوص بسرقة الأحذية من المساجد».. أدار رأسه إلى الأعلى وأطلق تنهيدة عميقة ، ثم حرك عجلة المذياع فإذا بصوت أم كلثوم يجلجل في جنبات المكان ويسابق تباريخ الريح ، سرح شارداً وتعلقت عيناه بشهاب في الأفق البعيد وجرفه خياله إلى مدينة الأمس فتجول في طرقاتها بحثاً عن أنفاس تلك المرأة التي علمته النقاء والحب والفرح والوفاء وتمنى العودة إلى سنوات عشه الأول . خيم السكون على تلك البقعة وهجعت الغربان إلا من نعيق متقطع لا تقوى الرياح على حمله.