ناصر بن محمد الشيباني :في عصر ندر فيه الوفاء وجفت ينابيعه،تأتي جامعة عدن الشماء ممثلة برئيسها الدكتور/عبدالعزيز بن حبتور فتدعو إلى الاحتفاء والاحتفال بمرور مائة عام على مولد العلامة والعبقري والعلم الشيخ/محمد بن سالم البيحاني الذي وافاه يومه وخذله قومه،أبت جامعة عدن إلا أن ترد الاعتبار لشيخنا الجليل،ولا غرابة في ذلك فالشيء من معدنه لا يستغرب،والعلم رحم بين أهله،فلا يعرف الفضل إلا ذووه فشكراً وافراً،وثناءً عاطراً لعمادة الجامعة وكل من أسهم في إعداد هذه الندوة،وتلك لعمري مكرمة ستبقى غُرة في جبين الدهر،وغصناً باسقاً في شجرة الخلود ولعل أول من بذر بذرة الجميل في المضمار مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة في محافظة تعز ممثلة برجليها النابهين/علي محمد سعيد أنعم وأحمد هائل سعيد أنعم فقد كانا أول الداعين إلى الندوة وحشد لها عدد كبير من المختصين،والاكادميين سنة2001م أحياءً لذكرى الشيخ الجليل محمد بن سالم البيحاني رحمه الله،ومن سنَّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.قال الشيخ الغزالي رحمه الله يوماً على كتب الشيخ محمد أبي زهرة عن الأئمة الفقهاء الكبار:أئمة المذاهب ابن حزم،وابن تميمة وغيرهم(لا يكتب عن الأئمة إلا إمام).وقال العقاد عن عبقريته المتعددة التي كتبها(أنه لا يحسن الكتابة عن العباقرة إلا عبقري) ومن أين لنا الإمامة والعبقرية حتى نكتب عن أمام وعبقري مثل البيحاني.فنحن أمام غابة شجراء فيها الدوح والثمر والماء والطير..نحن أمام شخصية فذة جمعت بين النبوغ العلمي،والسمو الخلقي،ولقد كانت مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة ملهمة حين دعت إلى هذه الندوة لتكون الشفق الجميل الذي يزركش وجه الأفق بأصباغه الفاتنة قبل الغروب،وأن كنا نعلم أن غروب ذوي الفكر،كغروب الشمس ما تلبث أن تذهب في المساء حتى تشرق في الصباح.والعالم الأديب ينتقل بجسده إلى عالم الأرض،وتبقى آثاره العلمية والأدبية مشرقة في نفوس قرائه ومريديه،فهي شمس تتجدد،وضياء يتوهج بدون انقطاع،وقد ارتحل البيحاني قبل أن يسمع،ما تنبض به قلوب محبيه في هذا المهرجان الحافل،لكن فليعلم أن غرسه الطيب قد أثمر،وأن أصدقاءه وتلاميذه ومحبيه ما زالوا على العهد،وأنه قدوتهم المُثلى حياً وميتاً،ولقد تحدثوا عن شمائله بما يشفي الصدور ويرنح الأعطاف ولا غرابة في ذلك،فقد كان شيخنا رحمه الله نادر المثال في خلقه الرفيع،وسلوكه النبيل فما أعرف عالماً مثله اجتمعت القلوب على تقدير مثاليته الرفيعة،ولا يخلونَّ المرء من خصوم ينصبون المكائد،ويؤولون الصريح من القول على غير نهجه السليم،وذلك مما يغيض ويرهق،بل إلى ما يدفع إلى الرد القامع والقول القارص،ولكن مواقف سماحة الشيخ كانت برداً وسلاماً على عارفيه،من مادحين وقادحين.وكان صوته مسموعاً،وكاد يكون هو الصوت الإسلامي الوحيد البيّن يجأر للدعوة إلى الله وسط الضوضاء الصاخبة التي تنعق لتقديس الطاغوت الأحمر بشقيه الاستعماري والحكم الشمولي،وكان هو الشمعة الهادية في تلك الفترة الحالكة الظلمات ولو أراد أن يركن إليهم ويمالئهم على حساب دينه ووطنه، لعاش بينهم في كهولته وشيخوخته موفور الراحة، مكفول الرزق، ولكنه خدم الإسلام وكره المتاجرة به، فتجرع لأجل دينه الصاب والعلقم، وطعن مع الدين الجريح، وأهين مع الدين المهان، ويوم سجن العلماء في عدن أيام الحكم الشمولي، كاد قلبه يتقطع أسئ من أجل إخوانه، ولقد رآه زواره يذرف العبرات السخية أسفاً وحزناً عليهم، ولما يلقاه البرآء الأطهار.ولولا أن لله مشيئة وحكمة في أن يظهر نوره متوهجاً، وصوته مسموعاً لأصبح في خبر كان، ولكن الله لطف به فعاش أخريات أيامه في تعز، ومات في تعز.. وذلك سر الهي لا يدركه إلا أولو الألباب. وكم لله من سر خفي يدق خفاه عن فهم الذكي نماذج من شعره في رفض الجمود والإلحاد :ويل حـر يريــد بالنــاس خيـراً [c1] *** [/c] وحواليه شلة الأوغادكلمات جاءهــم بشــيء جديد [c1] *** [/c] ضاع بين الجمود والإلحاد ولما خذله قومه قبل أن يوافيه يومه، قال رحمه الله باذلاً العفو والتسامح إلى الله أشكو ما ألاقيه من دهري [c1] *** [/c] ومن أمة عاشت على الطعن في ظهري أريد بهم خيراً وأسعي.. لنفعهم [c1] *** [/c] ويسعون بالإضرار بالسر والجهر سأرفعهم قدراً وأشدو بذكرهم [c1] *** [/c] وأن وضعوا ذكري وأن جهلوا قدري وقال معتز بنسبه وأصله ومسقط رأسه (القصاب) في بيحان :-مولدي كان في القصاب وبيتي [c1] *** [/c] من أجمل البيوت في حصن هادي وأبـــي كـــان عابـــداً وفقـيـها [c1] *** [/c] ولــي الفخــر إن أصلـــي كــــداديولما قيل عنه بأنه فقيه وواعظ فما له وللسياسة.. قال رحمه الله : تجنبت السياســة منــذ عهــد [c1] *** [/c] بعيد واعتصمت بالاعتزالوما أنا بالبليـد وليـس يخفـى [c1] *** [/c] علي الصدق أو كذب المقالولكنـي سأكتـم بعـض أمـري [c1] *** [/c] وبعض الأمر تظهره الليالي لكـي لا يحسـب الجاهـل أنـي [c1] *** [/c] أتاجر باتصال وانفصالي ومــا أنـا بالـذي يرتــاد خــبــز [c1] *** [/c] وماء بالمكارم والمعالي وكيـف أبيـع أوطانــي ودينـي [c1] *** [/c] وعرضي بالقليل من النواليوفي ذلك رد بليغ على الذين شككوا في وطنيته، وزعموا أنه عميل لغير أمته، ويوم غادر مدينة عدن مكرهاً، وبعد أن تعرض للأذى والهوان من عصابة جامدة لا تعرف للعلم ولا للعلماء قدراً، قال رحمه الله :-أحـنّ إليـك يـا بلــد المعـالــي [c1] *** [/c] ومالي لا أحن وألف ماليأحـن إليـك والأنفــاس حــرّى [c1] *** [/c] ونار الشوق تطفأ بالوصالِوهـل ستعــود أيــام تخـــلــت [c1] *** [/c] ولله أيام الخوالينعــم ستـعــود والدنيــا بخيـر [c1] *** [/c] وأمرك نافذ ياذا الجلال وشأن الخـيــر أن يبـقـى دومـاً [c1] *** [/c] وأما الشر فهو إلى الزوالولست بقاطع صلتـي بقومـي [c1] *** [/c] وإن قطعوا لأسباب حباليوما بيــنـــي وبينـهــم خـــلاف [c1] *** [/c] ولو داسوا الكرامة بالنعال وأن جهـل العــدو علــي عمــداً [c1] *** [/c] ففي الأعداء مثل أبي رغال وحكم الله غديراً في القضايا [c1] *** [/c] ومالي غير صبري واحتماليوأنتظـر الرجـــوع إلـى بــلادي [c1] *** [/c] وطعم العيش في الأكان حالي وإلا فالـــوداع وســــوف أدعــو [c1] *** [/c] لها بجوار حي ولسان حالي
أخبار متعلقة