قصة قصيرة
هائل المذابيقد يقول المرء إنه الموت بيد أن الموت أكثر جاذبية.. أنه الملل.. الملل.. الملل.. ذلك ما يورثه انتظار الحافلات أو ركوبها..كوني لست عاطلاً عن العمل ولا أملك سيارة مواصلات أخرى يسوغ لي استقلال الحافلات بمعدل أربع إلى خمس مرات بشكل يومي..مع الملل لا شيء يجدي.. لا يوجد أنصاف حلول ولا أنصاف مواقف.. حنكتني التجربة فصرت أكثر مرونة في تعاملي معه.. اخترعت لي هوايات.. خلقتها من حبي للتمرد.. لا أمارسها إلا ساعة استقل الحافلات، لا حباً فيها بل سادية واستبداد واضطهاد للملل وترجمة لمبدأ تجاري أحبه كثيراً والتزمه “تحويل الخسائر إلى أرباح..”.شيئاً فشيئاً أصبح- كابوس الملل الذي تنخنق به الروح وتبتل به النفس حلماً وردياً أنتظره كل يوم بفارغ الصبر..أصعد الحافلة وأحرص على اتخاذ الكرسي الذي خلف مقعد السائق مباشرة مجلساً لي يخولني ذلك ممارسة هواياتي المبتكرة..عدا هواية الإصغاء إلى ما يفوه به معشر الفقراء والكادحين من تحليلات سياسية وتنظيرات اقتصادية ولعن وشتم كل ما لا يملكون له ثمناًً عدا ذلك هناك هوايتي المفضلة “ القراءة” قراءة وجوه الركاب عبر مرآة السائق التي تتوسط اللوح الزجاجي الأمامي من الداخل.. ولأن الناس كالكلمات فقراءتها فن لا يجيده إلا الراسخون في العشق.. عشق الحياة وما كتبه الله فيها من كلمات..في المرآة تظهر أحياناً وجوه كالحة مستنزفة وأحياناً وجوه ناضرة مستبشرة.. وأحياناً أخرى وجوه بائسة متجهمة الابتسامة في عرفها خطيئة لا تغتفر..وما أعظم حظي حين يصادف بصري بين ما يظهر على المرآة عيون امرأة أو وجهاً يذكرك بقول الشاعر “ يزيدك وجهه حسناً.. إذا ما زدته نظراً..” إذ يحدث ذلك أشعر بالكرة الأرضية تزيد من سرعة دورانها ويمضي الوقت ما بين غمضة عين وإنتباهتها..ذلك فحسب..؟!كلا..الملل يغادر الحافلة يستشيط خيبة ويتضور تعاسة ومهانة.. يغادر دون دفع الأجرة ومن ثم يلقي بنفسه بطريقة انتحارية في أحضان إطارات أول سيارة تمر..اليوم استقللت الحافلة للمرة الرابعة وقفلت عائداً إلى البيت بعد أن أمضيت يوماً شاقاً.. طقوسي هي هي لم يجد ولم يتغير فيها شيء..في المرآة بدأت عيناي تستجوب الوجوه.. محض مصادفة لا أكثر أن أغلب الركاب نساء .. تلك الصحبة بدت لي منقسمة إلى فئتين .. فئة في المقدمة خلفي مباشرة بها عيون حالمة ووجوه بجمال العيد .. وهناك في المؤخرة فئة أجبرتني فظاظتها وشقاواتها على أن أقدم اعتذاري للمراة .. وفي المنتصف بين الفئتين مكان شاغر يشبه الحدود “ ليس لأحد”أنعشتني عيني الكانتا تطلان من النافذة لحظة أفقت من شرودي حين لكزني الجالس إلى جواري مفيداً أن المحاسب يطلب الأجرة .أرسلت عيني ليجوسا في المرآة لي أن أعلم ما يخبئه لي القدر هذه المرة.